الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

فؤاد زويريق: العناصر الجمالية في أفلام المخرجة المغربية أسماء المدير

فؤاد زويريق: العناصر الجمالية في أفلام المخرجة المغربية أسماء المدير فؤاد زويريق
للتعرف على سينما المخرجة  المغربية أسماء المدير الذي تألقت مؤخرا في مهرجان كان وحصلت على جوائز مهمة فيه، ونحن بكل تأكيد عشنا معها مسيرتها ونجاحها وفخورون بها وبما حققته بمعية زملائها، أعيد هنا نشر مقال لي  كتبته سابقا راصدا فيه تجربتها وقد نشر حينها في جريدة القدس، يمكنكم الاطلاع عليه كاملا أسفله:
 
لا يمكننا الحديث عن التجارب السينمائية المغربية خصوصا تلك التي أنجزت بأياد نسوية دون الحديث عن تجربة أسماء المدير، المخرجة الشابة التي ولجت السينما من بابها الكبير، عشقها للصورة دفعها للدخول بين متاهاتها والتنقل بين دروبها، وسبر أغوارها من خلال رحلة أكاديمية استكشافية بدأت من المغرب لتشمل بعد ذلك فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ثم روسيا، خلطة متنوعة ومختلفة من المدارس نهلت منها ثقافتها السينمائية بمختلف أجناسها لتعود بعد ذلك الى وطنها محملة بأفكار جديدة ومفاهيم مغايرة للسائد ظهرت جليا في أفلامها القصيرة المتعددة.
 
القيم الدلالية 
تُشكل أفلامها القصيرة لوحة فسيفسائية متقونة الصنع، ترصد بتوازن عوالم المهمش بأبعادها الاجتماعية، لكن بمعالجة متفردة تروم استحضار قصص انسانية معبرة بدلالات ايحائية، تحاكي قضايا مجتمعية في قالب درامي غير معقد، أفلام ببناء منطقي غير مشفر، متنه الحكائي بسيط للغاية لا يحمل بين طياته رسائل ملتبسة وغامضة كما قد يستنتج البعض، خصوصا في فيلم ''جمعة مباركة'' الذي قدم قراءة مختلفة لتركيبة المجتمع المغربي في فترة من الفترات، قراءة عالجها بصريا بشكل إبداعي لم نألفه، هذا رغم خيوطه ''السياسية'' المتشابكة التي نسجتها الراوية/الشاهدة بعفوية، مرتكزة في ذلك على اجترار تفاصيل ذاكرتها، هذه الأخيرة التي شكلت وعاء الفيلم وشريانه، ومن خلالها وقفت المخرجة/ الراوية على فترات معينة من تاريخ عائلتها، تلك التي قد تمثل في مخيلة المُشاهد المجتمع الموسع والمتشعب بأرائه المختلفة  ومواقفه المتعددة المتشنجة حد التصادم، ومع ذلك تجده يتحلق حول مائدة واحدة ويأكل من الصحن نفسه، في إشارة الى المصير المشترك الذي يدفعه الى التعايش والتسامح . و يبقى هذا ''الخطاب السياسي'' في الفيلم مجرد ضرورة دعته شخصياته، وخصوصا الشخصية الرئيسية المحتفى بها (الخال مرزوق)، ذاك الثوري الذي يمثل شباب الستينات والسبعينات، العائد من الإتحاد السوفياتي برؤى مختلفة وبفكر ''كُلياني'' واضح من خلال ما يردده دائما بأن ''التاريخ لا يكتبه سوى المنتصرين'' وهي قولة تمجد القائد المنتصر وترسخ عظمته وقوته، وقد كانت منتشرة إبان سيادة الأيديولوجيات الكليانية أو ما يعرف بالأيديولوجيات الشمولية، عدم إيمانه بالوسط يدخله دائرة اليسارالمتطرف، (فمن ليس من هؤلاء أو أولئك فهو منعدم غير موجود)، فهذا توجهه وهذا اعتقاده، وعبارته ''الحياة عبارة عن فائزين وخاسرين، مستغِلين ومستغَلين'' تؤكد لنا ذلك، وقد اختزلت المخرجة كل هذه الافكار بطريقة ذكية في الدمية الروسية الماتريوشكا أو بابوشكا الحاملة لرموز عدة من بينها ستالين، الذي يحيلنا في الفيلم الى شخصية الخال. وفي المقابل هناك شقيقه الخال حميد المتدين ''الطالبان'' كما وصفته الراوية في الفيلم، بالاضافة الى أبيها الذي رُمز اليه بدمية تحمل على واجهتها صورة الملك الراحل الحسن الثاني ربما للدلالة على انحيازه التام للنظام المغربي أنذاك، وهذان الشخصيتان الأخيرتان لم تقف عندهما المخرجة كثيرا، بل تمت الاشارة إليهما فقط حتى تظهر مدى اختلاف الميولات السياسية في عائلة تلعب فيها الام /الحاجة (كما في باقي الأسر المغربية) دور المايسترو الذي يتوسط الاوركسترا ويوزع الادوار بين أعضائها بديمقراطية وعدل فلا فرق عنده بين من يعزف آلة الكمان أو آلة العود فكل النغمات لديه متساويات بل وتكمل بعضها البعض.    
 
من بين الوحدات الدلالية المستعملة بذكاء أيضا في أفلام أسماء المدير، القاعة السينمائية وما تمثله من حلقة أساسية ضمن منظومة سينمائية متكاملة، وهي الحلقة المفقودة لدينا نحن في المغرب، وقد تناولتها المخرجة ضمن قصة درامية بسيطة في فيلمها الروائي القصير ''دوار السوليما'' إذ لم تعتمد التساؤلات النقدية المباشرة في تشريح هذه الظاهرة، أي ظاهرة اندثار القاعات السينما بالبلاد، بل أحاطتها بحكاية ذات أبعاد حركية تعاقبية رمزية، مرتبطة بلغة بصرية ولفظية وموسيقية آثرت رصد هذه الأزمة من بعيد دون الدخول في متاهات وتفاصيل لن يتحملها الفيلم القصير،  فاعتمادها مبدأ التكثيف بإتقان ساهم في بلورة مسار سردي واضح في زمن قصير(وهذا هو المطلوب)، مسار يرتكز على فكرة واحدة ووحيدة هي (النهوض بالقاعات السينمائية)، وهذا التكثيف لا يعني تخلي المخرجة عن البناء الهرمي التقليدي للحدث، بل بالعكس تم توظيفه بشكل يتناسب والاحتفاء بالمكان، حتى تجعل من الفكرة عنصرا قابلا للتداول والانتشار بين أكبر عدد ممكن من الجمهور، خصوصا أن هذا العمل يحاسب مجتمعا بأكمله ولا يخص فئة محددة أو مؤسسة بعينها، فصاحب القاعة مخطئ لانه لم يبحث عن البديل لجذب الجمهور بل تخلى بسهولة عن مشروعه الى درجة أنه كتب على لوحة البيع كلمة (زريبة) وفي هذا احتقار لفضاء مقدس سينمائيا. الجمهور المتمثل في سكان القرية مخطئ أيضا فهو لا يبادر الى استكشاف عالم السينما فهو دائم الانتظار، والمبادرة عليها أن تأتي من الآخر، كما أن الفيلم أشار بطريقة أو بأخرى الى غياب الدولة حيث لم نرصد من بدايته إلى نهايته أي تدخل من قبلها لإنقاذ  الصالة الوحيدة في المنطقة ولا حتى صيانتها، هي إذا توليفة موفقة من الدلالات تصب في قالب سيميولوجي واحد يُحقق عبر هذه الثلاثية عناصر أزمة عليها أن تنتهي على أرض الواقع.
 
عنصر الموت 
أفلام أسماء المدير لا تخلو من عنصر الموت، ليس بطبيعته المادية فحسب، بل ببعده الرمزي المعبر عن المستقبل أيضا، مستقبل مفتوح على كل الإحتمالات، كما جاء في فيلمها ''ألوان الصمت'' التي احتفت فيه بالموت بلغة بصرية شاعرية هادئة امتزجت فيها الكثير من مفردات الطبيعة كالبحر والسماء والغروب، فرغم أن هذا المشهد، وهو مشهد النهاية يعبر عن الحزن و آلام الفراق لكن يبقى في مضمونه عرسا احتفاليا يحتفي بموت البؤس/الأب، وانبعاث أمل جديد/ الطفلة، تلك الانسانة الخرساء  الصامتة الطيبة المستسلمة، المتمردة الثائرة العنيدة فجأة بعد حادثة وفاة والدها، وبين الأب والطفلة هناك الأم المنتظرة والمترقبة للمستقبل، سواء قبل أو بعد حدث الموت، وأقوى مشهد يعبر عن وضعيتها هذه مشهد البداية حيث تقف فيه جامدة صامتة بملابس كلها بيضاء -وهو لون الحداد بالمغرب-  في مواجهة البحر الذي ابتلع زوجها وبينها وبينه (أي البحر)  شبكة صيد تمثل رمز المستقبل الجميل الذي كان يراهن عليه زوجها قبل وفاته، وتمثل في الآن نفسه أداة هلاكه وضياعه لينهي الفيلم مسار أحداثه الدرامية بثنائية متقابلة هي الطفلة الحاضرة/الحياة والمستقبل، والأب الغائب/ الموت والماضي.  
في فيلمها ''جمعة مباركة'' نجد الموت أيضا، موت الخال مرزوق، الذي يمثل -كما قلت سابقا- أقصى اليسار داخل العائلة، وما يدل على ذلك في الفيلم -بالإضافة الى أفكاره- جلوسه الدائم على يسار والدته كل يوم جمعة، بينما باقي الشخصيات يجلسون على يمينها وكلهم من أصحاب رؤى سياسية مغايرة له، وربما وفاته بعد صراعه مع مرض السرطان فيها إشارة الى وضعية اليسار المغربي الذي يعاني من الترهل والمرض والموت أيضا.
الموت في هذين الفيلمين قد يتجاوز المادي المحسوس الى خطاب مجازي يؤوله ويسقطه على حالات وظواهر أخرى نعيشها  مجتمعيا، لكن في فيلم ''دوار السوليما'' نجد الموت بمفهوم آخر يهم الفضاء والمكان، مجاز يلامس ظاهرة غياب القاعات السينمائية، فإغلاق الصالة السينمائية الوحيدة بالقرية هو موت أيضا، وبث الحياة فيها من جديد هو أمل وتفاؤل مستقبلي. 
 
عنصر الطفل 
يحتل عنصر الطفل في أفلام أسماء المدير حيزا مهما، إذ نجده في جميع أفلامها تقريبا ففي فيلم ''دوار السوليما'' كان عنصرا بارزا بقوة، بل كان صانع الحدث فيه، وتواجده كان بمثابة النواة التي تدور في فلكها باقي الشخصيات، حضوره أيضا في فيلم ''ألوان الصمت'' كان محوريا، فهو تلك الفتاة الصغيرة الصامتة التي تمثل الجسر الرابط بين كل العناصر والشخصيات الفيلمية، وصمتها يعبر عن حالة وجودية ساكنة ترصد ببراءة طفولية وأمل عفوي الحياة الصاخبة القاسية  من حولها، حياة البؤس والفقر والمعاناة، وتدفعنا نحن الجمهور لاستكشاف عوالم الطفل النفسية التي تجعله صامدا داخل هذه الدائرة الموحشة، وقد وقفت المخرجة على هذه الحالة وأبرزتها بقوة وأتقنت تسريبها بين الأحداث حتى جعلتنا نتقمص دور الفتاة في مراقبة الحياة وانتظار الأمل. في فيلم ''جمعة مباركة'' كانت الراوية هي نفسها الطفلة، فرغم انها تروي الحكاية بلسان فتاة عدَّت طفولتها بسنوات، إلا أن الذاكرة المستعادة في العمل هي ذاكرة طفلة عاشت الاحداث وكانت شاهدة عليها، ومن خلالها تعرفنا على نظرة الطفلة للكثير من التفاصيل العائلية المرتبطة أساسا بتفاصيل أخرى أوسع تهم مجتمعا بأكمله.  
حضور عنصر الطفل في أفلام أسماء المدير هو حضور مرتبط بذاتية المخرجة  نفسها، فتوظيفه بقوة هو بمثابة استحضار الطفولة القابعة داخلها، طفولة محملة بالهواجس النفسية والاجتماعية... بحيث لا تلبث أن تظهر من تلقاء نفسها كلما انطلقت عملية التصوير. أما علاقته ببنية الفيلم الدرامية وكذا رؤيته الفكرية، فهي علاقة بسيطة غير معقدة نسبيا لكنها في الان نفسه معبرة وعميقة في طرحها، حيث نجد في فيلم ''دوار السوليما'' ذاك الطفل الموهوب، المبتكر، المهووس بالصورة، البعيد عن عالم الطفل والمنغمس في عالم أكبر منه، عالم السينما بهواجسه ومشاكله،  وفي فيلم ''ألوان الصمت'' نجده فتاة منعزلة صامتة بعيدة أيضا عن عالم الكبار لكنها شاهدة عليه، وهي نفسها الفتاة/الشاهدة في فيلم ''جمعة مباركة'' لكنها ليست صامتة ولا منعزلة بل هي حاضرة بكل ثقلها المادي والمعنوي  حيث تشاهد وتحلل وتفسر وتستنتج.
 
خلاصة مفتوحة
تستخدم أسماء المدير في أفلامها اسلوبا سينمائيا بسيطا للغاية بلغة سردية أنيقة مركزة، بعيدة عن الحشو والتمطيط، توجهها يعتمد بشكل أساسي على عنصري الطفل والأمكنة الخارجية المفتوحة (بخلاف ''جمعة مباركة'')، وهي عناصر  تذكرنا بالمدرسة الايرانية وخصوصا عباس كيارستمي وجعفر بناهي ومخملباف وغيرهم، بل حتى اننا نجد  بعض الاكسسوارات المختارة  في أعمال أسماء المدير، إضافة الى فضاءات التصوير الخارجية تتشابهه نوعا ما مع تلك المستعملة في بعض الافلام الايرانية، وأعطي هنا كمثال اللوح الإعلاني لملصقات الافلام، التي يحمله الطفل على ظهره طيلة أحداث شريط ''دوار السوليما'' والالواح السوداء التي يحملها شخوص فيلم ''اللوح الأسود'' Blackboards لسميرة مخملباف، طبعا تختلف وظيفة اللوح في كلا الفيلمين لكن الاكسسوار نفسه والهدف منه واحد. طبعا لا يعتبر هذا انتقاصا من قيمة أفلام أسماء المدير بل بالعكس فالمُشاهد المطلع قد يلمس هذا التقارب لكنه تقارب صحي مميز ومعالج بطريقة تقنية وجمالية مختلفة تماما.
يُظهر التراكم النوعي الذي حققته أسماء المدير في مجال الفيلم الروائي القصير تميزها الملحوظ في هذا الجنس السينمائي، وتمكنها من أدواته، واتقانها لعملية الهدم والبناء التي تعتمد عليها لغته، كما يُظهر لنا استخدامها الجيد للإيقاع المتوازن والهادئ في سيرورة الأحداث، وهو إيقاع يجعل التفاعل أكثر قربا من مخيلة المُشاهد، ويكشف لنا عن قدرتها على اقتناص اللقطة وتحويلها الى قلق معيش. أما شخصياتها الفيلمية المختارة بعناية فهي واقعية جدا ومتماهية مع كينونة المخرجة نفسها، وتجعل الرؤية أكثر وضوحا وشفافية.