عبد الواحد الفاسي: شهادتان للتاريخ في حق الزعيم علال الفاسي إحياء لذكراه 48

عبد الواحد الفاسي: شهادتان للتاريخ في حق الزعيم علال الفاسي إحياء لذكراه 48 عبد الواحد الفاسي
حظيت شخصية الزعيم علال الفاسي، المتعددة الأبعاد، باهتمام العديد من الباحثين والدارسين والمفكرين والأدباء و الصحفيين وكذلك القادة والزعماء. هذا الاهتمام الذي جاء تتلفة. إما على شكل بحوث مفصلة ودراسات معمقة، أو مقالات نشرت في وجرائد، أو عروض ومداخلات في ندوات أو على شكل شهادات قدمت في مناسبة من المناسبات.
هناك من تناول سيرة وحياة الزعيم علال الفاسي النضالية من أجل تحرير الوطن من الاستعمار ومن مخلفاته وما تحمله جزاء ذلك من معاناة ومحن وتضييق ونفي سحيق.
وهناك من انصب اهتمامه على حياته السياسية التي كرسها للدفاع عن الحرية وعن الهوية المغربية وثوابتها وعن وحدة القوى الوطنية وبناء مجتمع تعادلي متضامن وقوي. ومنهم من تطرق واشتغل على مواقفه الوحدوية الثابتة سواء من أجل استكمال الوحدة الترابية للمغرب أو من أجل بناء المغرب العربي أومن أجل توحيد الأمة العربية والإسلامية، و مواقفه كذلك من أجل تحرير فلسطين وباقي الدول والشعوب المستعمرة.
وهناك عدد من الباحثين والدارسين الذين انكبوا على دراسة نظرياته واجتهاداته وكتاباته في التاريخ وفي الشريعة والاقتصاد والاجتماع وفي سياسة تدبير الشأن المحلي والعام. ومنهم من اتجنب إلى كتاباته الأدبية والشعرية وخطبه ونداءاته الملتزمة.
إن هذا الاهتمام بشخصية الزعيم علال الفاسي وكتاباته ومواقفه المتعددة ابتدأ وهو لازال حيا واستمر بشكل أكثر زخماً بعد وفاته رحمه الله سنة 1974 .
ونحن، إذ نقوم في هذه الأيام بإحياء الذكرى الثامنة والأربعين لرحيل زعيم الوطنية والاستقلال الخالد علال الفاسي قدس الله روحه، أحببت أن أقدم وانشر، بهذه المناسبة ، شهادتین متميزتين وهامتين لشخصين مختلفين من حيث الانتماء الفكري والمذهبي وميدان العمل ولكل واحد منهما وزن وقيمة كبيرة في الوسط الذي ينتمي إليه. شخصان كانا يكنان للزعيم علال الفاسي احتراما كبيرا وتقديرا لامتناهيا لما وجداه فيه من أخلاق ونزاهة فكرية عالية ، ولما لمساه فيه من حصافة الرأي وبعد النظر والنأي عن أي شكل من أشكال التطرف العقدي والمذهبي.
الشخصية الأولى قامة فكرية عالية وذات صيت ومصداقية لدى مفكري ومثقفي العرب والغرب على السواء. إنه عالم الاجتماع والمفكر والمستشرق الفرنسي جاك بيرك (Jacques Berque) صاحب كرسي التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر بكوليج دي فرائس والأستاذ بجامعة السوربون ، والذي قام بترجمة القرآن الكريم وأنجز عدة دراسات وبحوث حول المجتمع المغربي والمغاربي، توفي سنة 1995.
الشخصية الثانية قطب محوري ووازن ضمن المذهب الشيعي المعاصر، وأب روحي للتيار السياسي المحسوب على هذا المذهب داخل لبنان ودول الجوار. إنه الزعيم الشيعي موسى الصدر الذي يعد من بين الشخصيات الفكرية والعلمية المؤثرة في المجال الثقافي والسياسي في لبنان وفي أوساط الشيعة بشكل عام، وهو المؤسس للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ولحركة أمل بلبنان، والذي اختفى في 31 غشت 1978 أثناء زيارة رسمية
لليبيا.
 
1) شهادة جاك بيرك
شهادة جاك بيرك عكست انطباعاته وما رصده ولمسته خلال لقاءاته بالزعيم علال الفاسي منذ أول مرة تعرف فيها عليه حين زاره في منفاه بأفريقيا الاستوائية بمركز "ماياما" " بالكونغو برازافيل. وهي الزيارة التي تحمل أعباءها انطلاقا من مدينة برازافيل بعد مشاركته في ما سمي " مؤتمر برازافيل " المنعقد في شهر يناير- فبراير من سنة 1944 حول موضوع الاستعمار ومصير المستعمرات الفرنسية. ثم عرفه بعد رجوعه من 3/11 وعن قرب ، في مناسبات التقيا فيها قبل وبعد استقلال المغرب ، في القاهرة وفي الرباط.
جاءت هذه الشهادة في تقديمه لكتاب " علال الفاسي أو تاريخ الاستقلال (ALLAL EL
FASSI OU L'HISTOIRE DE L'ISTIQLAL)"
من تأليف الصحفي الإيطالي الملتزم " أتيليو کودیو (ATTILIO GAUDIO)"، الصادر سنة 1972.
يقول جاك بيرك في هذه المقدمة التي وجدت ترجمتها في كتاب الأستاذ محمد السلوي أبو عزام تحت عنوان "أسرار وحقائق عن علال الفاسي" نشر سنة 1981 "كان "مؤتمر برازا فيل" في يناير 1944 مناسبة أتاحت لي اللقاء مع زعيم مغربي كان منفيا أنذاك في الكابون.. وكان علينا أن نقطع نصف النهار في المسالك الوعرة وسط الأحراش للوصول إلى مركز "ماياما"، وهناك، في دار صغيرة مشيدة بالهندسة الكولونيالية، رأيت رجلا مازال في مقتبل العمر بدا على وجهه نوع من الانفعال سرعان ما تحكم فيه وأخفاه حينما سمعني أحييه باللغة العربية..
وفي ذلك الوقت لم يكن علال الفاسي يتحدث الفرنسية إلا بصعوبة. وبفضل قراءاته للآداب الكلاسيكية المدرسية التي صارت تبعث بها إليه أحد مكتبات برازافيل، وبطلب مني ، تمكن من أن يتقوى في لغتنا الفرنسية. وكان قد قضى هناك سبع سنوات بعيدا عن أقربائه، ومعزولا عن جو الحرب المحموم وعن مجريات الأحداث في بلاده التي اتخذت اتجاها حاسما. وكانت الغيبة قد زادت من أهمية هذا المنفي. إذ أصبح مجموع المغرب الفتي يردد قصائده التي تقع في أيدي الشبيبة المغربية بين الحين والآخر دون أن يعرف أحد مصدر ذلك. ولم ينس أي كان فصاحته الرائعة ولا نظراته الخاصة المتألقة. ولم يكن تكريسه كزعيم بعيد العلاقة عن الصيت الذي كانت تتمتع به أصوله من قديم. إن الفاسيين يعدون من سلالة الفاتح العربي عقبة بن نافع. وبعد كثير من التحولات والتغييرات المختلفة سواء في الأندلس أو في شمال المغرب ، أقاموا بشكل رئيسي في فاس حيث مارس أحدهم، وهو أبو المحاسن "الذي توفي سنة 1604 ميلادية" -كعالم وصوفي- نفوذا بعيدا وذا شان. ومن ذلك الحين ظلت هذه العائلة تشغل أعلى مناصب الأستاذية في المدينة. ولم يكن من باب الصدف أن يجد الجيل الجديد من البرجوازية الفاسية في سليل هذه العائلة رمزا لمناهضة الحماية ، والجيل المغربي السابق، وانتشار الفكر الخرافي والدجل لدى المغاربة المسلمين. كما رأى فيه رجل العمل ، أيضا ، في هذه الوجهات الثلاث، لقد كان الهدف هو تأكيد هوية عريقة مجسمة في ثقافة أهل المدن كشكل ينبغي الأخذ به على مستوى الأمة، والعالم العربي، والقرن العشرين عن طريق الحفاظ على أسس الاستمرار في نفس الوقت الذي تشن فيه حملة القطيعة مع كل ما يعلق بهذه الهوية العريقة من شوائب.
لقد كان هذا، وعلى أي حال، هو الاتجاه الأساسي الذي اكتسب الشرعية الشاملة يفضل انخراط النظام الملكي العلوي فيه ، وقد التحمت تماما هذه الرابطة سنة 1953 مع نفي محمد الخامس. وهكذا أصبحت الوضعية، وتبعا للتصنيف البسيط وغير القابل لأي مراجعة أو تعديل، تضع من جهة مطامح شعب متمسك بحركية العالم ، ومن جهة أخرى ردود الفعل المهزوزة لسلطة الاحتلال.
وبما أنه كان علي أن أغادر المغرب، أنا بدوري، فقد التقيت مرة أخرى بعلال الفاسي في القاهرة ، في مكتبة السيد لطف الله سليمان، التي كانت ملتقى لكثير من المثقفين من الماركسيين ومن غيرهم، وكانوا يدخلون في نقاش حام في محاولة لمواجهة التساؤل عما إذا كان الحصول المتواتر للأقطار العربية على استقلالها يعد جوابا على سؤال مطابق لاتجاه التاريخ. وكان علال الفاسي قد تغير في المظهر. إلا أن نظراته المدهشة الغارقة في لخضرة مشوبة بزرقة تشابه نفس الألوان التي تحدها تصبغ سقوف المساجد العريقة في مدينته ، كانت وسط وجه مثقل تشع بذات النهم لتلك الجذوة التي لا يمكن أن تحمد والتي.عين علال الفاسي وهو في مقتبل العمر.
وكانت تحيط به هالة توحي بطاقة ضرغام بقيت عليه آثار محن خلى تخطاها في انتظار الانتصارات الوشيكة. لقد كان علال الفاسي هو عين التاريخ الإسلامي في المغرب العربي.
لقد رجع إلى المغرب من الكابون بقرار من المقيم العام "إريك لابون". وبعد ذلك غادر المغرب عن طواعية واختيار إلى الشرق، وفي ذلك الجو كان واسع الخاطر ، سريع البديهة، مجاريا لظروف كفيلة بأن تضع حدا بين الإنسان وبين مصادر شخصيته. إلا أنه مع ذلك ظل محتفظا ، في وضعية الزعيم المغترب ، بسلوكه الأصيل وحتى بلكنته المغربية.
ولم يشارك في حملات الحماسة الأولى لمصر الناصرية، معتقدا، في ما يبدو، بأنها قد سبقت الأقطار العربية الأخرى للأخذ بالطرق العصرية على النمط الغربي، مستخلصة مع ذلك بعض النضج والخيلاء. لقد كان يرى دائما بأن الجولة مع الغرب ستتم دون أي تنازل من الطرفين.
وفي المغرب، تجابه مع وطنيين يعدون أكثر قربا من اللبرالية على الطريقة الأوربية. فحينما عاد إلى بلاده وجد قادة أصغر منه سنا، وبالأخص المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد، اللذين لا يفصلان المطالب الوطنية عن الاشتراكية التي تجد أصولها عند ماركس، وقد حاولا - وهما المنتميان، فضلا عن ذلك، لفئة الفرانكفون - أن يلجنا المناضلين القداسي إلى زاوية النسيان، مقدمين بذلك للعالم، وخاصة لفرنسا، قاسما مشتركا للحصول على درجة أعلى نحر الديمقراطية.
إن علال الفاسي لا يدافع فقط عن الشخصية المغربية، ولكنه يدافع عن الهوية الإسلامية وهو يعتقد أن الإسلام وحده هو القادر على أن يحمي بلاده من سلاح أوربا القاتل وذي الحدين المتمثل في كل من الكهنوتية أو اللائكية ؛ الدين أو الثورة الروحانية أو المادية…إلخ. وهكذا يسير في استمرار التقاليد الإصلاحية المستمدة من الأصول مع الاحتفاظ بمميزاته الخاصة. وهو اليوم، وبدون شك من أحسن ممثلي هذا الاتجاه.
لقد وصل حزب الاستقلال الذي يترأسه إلى الحكم. وقد انفجرت العلاقة بين الاتجاهين داخله بعد أن ظلا موحدين. وكان من أثر هذا الانفجار أن وضع حد لدور البرلمان، وتم إقبار مشاريع كبرى، وتجميد الوضعية الاقتصادية، وبروز تعثرات في طريق استقلال هذا البلد الذي تم في جو مفعم بالأمال العراض . إن القطيعة بين الاتجاهين داخل حزب الاستقلال تشكل في الواقع مصدر كبريات المآسي.فهل كان هذا الانفجار لا مفر منه ولا يمكن تجنبه؟ ومن هو المسؤول عن ذلك؟ إن الأمر لا يتعلق هنا باتخاذ موقف إلى جانب أحد الاتجاهين. وأن كاتب هذه السطور ليحظى بصداقات في هذا الجانب وفي ذاك . واراؤه السياسية الخاصة لا يمكن أن تكون لها أية علاقة مع سير المغرب. ولكن كل هذا يسمح له بالتأكيد على الفرحة التي استشعرها خلال فترة استفتاء سنة 1970، وهو يرى لم شمل صفوف حزب الاستقلال. ومن جديد انبعثت الأمال بالنسبة لهذا البلد الحيوي ، والجميع يعرف ما حدث بعد ذلك.
إن علال الفاسي ظل دائما، ولحد الآن، الزعيم الذي يحظى بأكبر احترام وتقدير، وهو يعاني من اللوعة التي يتسبب فيها مصير هذه الشبيبة التي أصيبت بخيبة أمل فصارت تتجه مع كل الرياح. وإلى جانب مسؤولياته كرجل دولة وبنفس المجهود يقوم بنشاطاته كاستاذ وبحاثة.
وبعيدا عن المبادرات الحكومية التي قام بها، والتي تأخذ باهتمام المختص في العلوم السياسية والداعية إلى كل الاعتراضات ككل المبادرات المشابهة، فإنني أريد أن أتطرق في المظهر الثاني في نشاط علال الفاسي . لقد شعر الزعيم المغربي بأن الثقافة لأسد المغرب العربي أصبحت مهملة إلى درجة أضحت معها عبارة عن أمجاد عتيقة مع أنها تؤثر في السير اليومي للمواطن. لذا يجب أن تجدد وتوضع في طريقها الأصيل حتى يحال بينها وبين الاندحار. وأثناء تقلده إحدى الوزارات شاركته في مشروع لإحداث معهد إسلامي، وسقطت الوزارة التي كان عضوا فيها ، لكن المشروع تم تنفيذه بشكل جزئي. وأعتقد أن من هذا المشروع خرجت مراكز البحث في شؤون العلوم الأصيلة والتي تسمى "دار الحديث". إن إنشاء مثل هذه المعاهد كان شيئا ضروريا، إذا ما يذلت المساعي لإنقاذ مستقبل الجامعات الدينية الكبرى مثل جامعة القرويين. فكيف يمكن الحديث عن الاستمرار والحفاظ على التراث الأصيل، إذا لم يأخذ البحث في هذا الميدان طريقه الواسع؟ وإذا أخذنا كمثال كتاب " دفاع عن الشريعة وكتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" نجد أنهما يشكلان شهادة عن دراسة ترغب أن تكون متفتحة على تساؤلات العصر، مستعملة في الإيضاح، وبفخر، مصادر كلها، على التقريب، من الأندلس أو من المغرب العربي. وهكذا كانت الدراسة أصيلة. وإذا قيست بأعمال من سبقه من العلماء الأفذاذ، وأتذكر هنا على سبيل المثال دراسة حول الشيخ محمد عبده، نجد أن الكفة تميل ضده أبدا.
إن استمرار مشاريعه، ورغبته في عدم فصل العمل عن النظرية، جعلت زعيم استقلال المغرب يميز دائما بين ما هو طارئ وظرفي وبين ما هو جوهري. وقد ظهر ذلك خلال كفاحه ضد فرنسا وهو يرى بدون شك، بأن نهاية معركة تتم بإقامة ما هو أصيل، قمينة بأن تجعل من أعداء الأمس أعوانا في المجالات الواسعة.
إن علال الفاسي، بطل السيادة المغربية الذي لا يمارى، والوطني الغيور على الوحدة الوطنية، هو في نفس الوقت، وبمعنى آخر، من أكثر الرجال تفتحا على قيم الغير. ولا أقدم أكثر من دليل، إذ سأقتصر على ذكر التقدير الكبير الذي يكنه للسيد لويس ماسينيون وقد كان لي حظ الاستماع إليه مرة أخرى في القصر القديم بمدينة فلورانسا، وهو يتحدث بعطف وكرم مؤثرين ، في نفس الوقت الذي يلح فيه على الدفاع المطلق على حق الفلسطينيين ، وبفرض إيجاد حل لهذا المشكل المؤلم.
إن هذه الطاقة الجموح المتفجرة ، وهذه الحياة التي لا يعرف التعب إليها سبيلا، ولكنها لا تخلو من ملامح الألم ، كانت تستحق من يتوجه إليها بعناية الترجمة. وقد تحمل أتيليو كوديو هذه المهمة فأنجزها مدفوعا برغبته القوية في تقصي الأخبار، وبموضوعية لا تخلو على أية حال من الإعجاب ببطله هذا. وحتي أنا نفسي ، فإنني وأنا أخط هذه المقدمة لم أحاول تجنب هذا الضعف لأشير إلى بعض الفترات التي التقيت فيها بهذا الرجل العظيم الذي كان له موعد مع القدر".
 
2) شهادة موسى الصدر
هذه الشهادة جاءت ضمن كلمة ألقاها موسى الصدر خلال الحفل التأبيني الذي أقيم بالرباط في شهر يونيه سنة 1974 بمناسبة مرور أربعين يوما على رحيل الزعيم علال الفاسي . إنها شهادة تعكس المكانة المرموقة والمتميزة التي كانت لعلال الفاسي لدى المسلمين بمختلف مذاهبهم وفرقهم . مكانة المعلم العالم والفقيه والسياسي المجاهد، بدون كلل أو توقف، من أجل نصرة الدين الإسلامي كعقيدة واحدة وموجدة ومن أجل وحدة الأمة الإسلامية وتحرير فلسطين. وهذا نص الكلمة الشهادة:
" باسم الله الرحمن الرحيم.
أيها المحتفلون الأوفياء!
من مصارع الموت والحياة اليوم ، من لبنان، حيث تزرع إسرائيل الدمار وتنشر الموت بين أبناء هذه الأمة من لبنانيين وفلسطينيين، وحيث يحولون الموت إلى الحياة ويتحملون بألم وشجاعة مسؤولية الدفاع عن أمتهم في أحرج جبهاتها ، من هناك وجدت في موته كما في حياته شعلة ، تلتهم حدود الموت وتصل بالحياة إلى الأبدية، فحضرت لعلي أتي منها بقبس أو أجد على النار هدى!
أيها الراحل المعلم:
كانت الدنيا تتربص بك فتخطف في كل لحظة منصرمة من عمرك ورقا، فكنت، كما كان الصالحون، تتحدى الزمن فتكتب بهذه اللحظات الهاربات شعارات الثبات على جبين الدهر وتجعل هذه الأوراق على مفارق طريق الأمة ، تشير وتوجه وتصرخ وتناشد، فإذا الأجيال هنا وهناك منذ أواسط النصف الأول من هذا القرن تثار ، تستيقظ فتلتحق بالركب أحادا وعشرات، بل مئات والوفا.
ثم جاء الموت، محاولا أن يطوي صفحات حياتك الناصعة نهائيا ، فرفضت ورفض معك رفاقك وطلابك ، فجعلتُم من الموت خلودا ومن الغياب شهودا . ها أنت تطل من المشرق والمغرب علينا وتتحدث من المنبر والكتاب إلينا ، وتكتب بالحبر والدم تاريخ أمتك ، فرحا بما آتاك الله ومستبشرا بالذين لم يلحقوا بك.
أيها المجاهد المرابط .. ! ها نحن اليوم نحتفل لك بالنصر. نصر على الموت، وانتصارات متسلسلة في الحياة. لقد علمك الإسلام أن طريق الجهاد نصر دائم وعزة دائمة "قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" فعشت منذ أوائل عمرك معارك ضارية ضد الجهل والجمود، ضد الاستعمار السياسي، ضد المؤامرات الاستعمارية لتجزئة الأمة وتقسيم الوطن، ضد فرض المستعمر قيادات وإبعاد القيادات الصالحة . عشت هذه المعارك ودفعت الثمن من شبابك وصحتك وراحتك غاليا ، ولكنك خرجت منها منتصرا مصقولا ، تحكي تاريخا وتضمن نصرا وتجميد مصيرا.
وقد قرأت وسمعت وشاهدت فيك، في قسمات وجهك المرهف المرهق، في مشيتك المثقلة العنيدة، وفي حوارك الهادئ الحازم ، قرأت كما قرا وسمع وشاهد الكثيرون ، متابعة النضال لأجل الاستقلال ضد الاستعمار الاقتصادي ، وضد الاستعمار الثقافي والفكري الذي يتسلل خلاله المستعمر إلى القلب وإلى القوالب ، ويدخل في التفكير وفي المطالب ، فترى الأمة إذ ذاك بعين المستعمر لا بعينها ، وتفكر الأمة إذ ذاك بالمقاييس الموضوعة من قبله لا بمقاييسها ، وتستمر الأمة في خدمة المستعمر دون أن تكلفه جهدا وعناء . ذلك الاستعمار الذي يجعله نبينا العظيم أسوأ أنواع التدهور في أمته فيقول : " سیات : ماء على أمتي يرون فيه المنكر معروفا والمعروف منكرا ".
إنك عرفت بمرارة وتجربة أن حياة المؤمن جهاد مستمر، وأن الغياب لحظة واحدة وفي معركة واحدة قد يذهب بنتائج انتصارات سابقة كثيرة . فالمستعمر يغير اسلوبه ووسائله واتجاهاته بسرعة فائقة . إنه في المصطلح الإسلامي هو الشيطان بنفسه ولكن في حياة الأمة . لذلك فإن الجهاد وسيلة الدفاع لا الثورة . لأن الجهاد مستمر ولأنه غير مرتجل ، ولأنه معتمد على الجهود لا على الفرص. وأن انتهاء مرحلة منه بداية أخرى وأن الجهاد الأكبر هو الذي مع النفس .
والأمة كالفرد لها أيضا جهاد أكبر من نفسها ، بالإضافة إلى الجهاد مع أعدائها ، للأمة مع الطغاة والظالمين والمحتكرين من أبنائها مع الساكتين عن الحق فيما بينها ، مع الذين شاركوا في تجزئة المسلمين وخضعوا لنزعاتهم الانفصالية ولأنانيتهم فتحطمت الأمة وفقدت عزتها ومبادراتها ونسبت دور الشهادة التي كتبها الله تعالى عندما كلفها بأن تكون شهيدة على الناس ويكون الرسول شهيدا عليكم.
ومع الذين حاولوا تجزئة الإسلام الواحد فقسموه إلى عقائد وإلى أخلاق وإلى الفقه وإلى الماديات والمعنويات وإلى الشريعة والطريقة، وإلى الدنيا والدين، وإلى رجال الدين ورجال الدنيا ، قسموا الإسلام لا من أجل الاختصاص والإتقان والتعمق، بل لفصم عرى الوحدة في الإسلام الذي كان واحدا في جميع الميادين ، ومحركا في جميع المجالات.
وقد كنت في هذه المعركة ذات الجبهات الثلاث قائدا ، وقد كان للمغرب العظيم، دائما قدم سبق في هذا المجال وكنت تمثله وتمثل المشاعر والقناعات فيه بأمانة لقد كنت بسلوكك الخاص وبأفكارك وبدعوتك، كنت حربا على الذين يريدون علوا في الأرض وفسادا، ولذلك فهم يستضعفون الناس فيأخذون منهم حرياتهم وأموالهم أو عقولهم. يستعمرون أو يستثمرون أو يحاولون إبقاءهم في الغياب.
إنهم يريدون ذلك، ولكن الله يريد بواسطة أمثالك المجاهدين أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض فيجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.
وبانفتاحك على العالم الإسلامي وحضورك الدائم ونضالك منذ أيام نداء القاهرة كنت تشكل وتدا من أوتاد هذه الأمة. فألفية الطوسي في خراسان كهموم المسلمين في الفلبين، لا تغيب عنهما ولا يغيبان عنك ، كما في مؤتمر تنظيم الأسرة في المغرب وترفعك عن المذهبيات وإعطائها حجمها الواقعي لا أكثر ولا أقل ، كان واضحا في مواقفك ومجالسك.
واختيار النضال السياسي المنظم وأنت من صميم القرويين ، دليل وشهادة على رفضك مؤامرة فصل الدين عن الدولة وتحجيم القوى الدينية وسجنها ضمن المعابد وبالتالي ترك الدنيا ورجالها تسير غير معتمدة على القاعدة المناقبية الدينية.
وقد أثبتت بقبولك الملتزم بالتطورات الحديثة ، بل بمشاركتك في التطوير كما برز في مشروعك التعادلية الاجتماعية، قد أثبتت براءة الحكم الديني والأحكام الدينية سيما الفقه الاجتهادي عن الجمود ، وأراد الله أن يقر عينك قبل وفاتك، حيث شاهدت كتائب من شباب المغرب الأبطال توجهوا في استعراض أمام جلالة الملك الحسن الثاني إلى ساحات الجهاد. توجهوا في مسيرة إلى ساحة الجهاد، فكتبوا في الجولان وفي سيناء بدمائهم وببطولاتهم وحدة لجغرافية الإسلام بشرقها وغربها، وكتبوا أيضا وحدة تاريخية للإسلام حيث أثبتوا أن الأمة التي خاضت معارك بدر وأحد وحنين هي موجودة وقائمة وهاهم في طريق عودتهم منتصرين انتصروا على العدو، وانتصروا على اليأس، وانتصروا على دعاة التفرقة. فلنقل لهم مع الجواهري:
فيا واصلا من نشيد الخلود
ختام القصيدة بالمصرع
وكان المغرب دائما يرفض التصنيف ويجعل من هذا الترفض رسالة تاريخية.
أيها الإنسان الصديق بتواضعك وبرفضك الغرور ، كنت تدخل في كل قلب وتجند كل طاقة وتأخذ كل خير. وبانتظامك ودقتك وصدقك كنت تحافظ على صيانة العلاقات. وبقناعتك كنت تناضل ضد محنة العصر حيث تفرض وسائل الإنتاج حاجات المستهلكين. وبالتزامك الحق في سلوكك السياسي كنت تؤكد أنك لا تعبد عملك فلا تبيح كل شر في سبيل عملك وخطك ، بل إنك تعبد الله الحق وحده. فسلام عليك يوم ولدت ، ويوم مت ، ويوم تبعث حيا.
والسلام عليكم".