مصطفى حمزة يحكي جوانب من التاريخ الراهن لبلاد أحمر (ح/9)

مصطفى حمزة يحكي جوانب من التاريخ الراهن لبلاد أحمر (ح/9) مصطفى حمزة يتوسط صور بعض رجالات المقاومة بالمنطقة
في لقاء لجريدة "أنفاس بريس" مع الباحث مصطفى حمزة، المتخصص في التاريخ المحلي والجهوي، بخصوص حلقات حول: "جوانب من التاريخ الراهن لبلاد أحمر"، أشار بالقول: " إننا عادة ما يكون عدم اهتمامنا ببعض الأحداث، والأمكنة وغيرها من تراثنا المادي واللامادي رغم أهميتها المادية والمعنوية، سببا في زوالها واندثارها، وبذلك نفقد جزءا مهما من ذاكرتنا".
وانطلاقا من هذه الملاحظة، شدد الباحث مصطفى حمزة قائلا: "يتضح أننا ضيعنا جزءا كبيرا من تراثنا المادي واللامادي". مضيفا بأن ما ضيعناه على سبيل المثال لا الحصر بإقليم اليوسفية بقبيلة أحمر من معالم ومواقع أثرية وتاريخية يتمثل في "معلمة القصبة الإسماعيلية، ومدرسة الأمراء العلويين، إلى جانب الحاضرة الفوسفاطية التي بدأت تخضع للتشويه، فضلا عن بنايات حي (الديور الجداد)، ومراكز قرية سيدي أحمد، والقرية الفوسفاطية المزيندة، والأحياء العمالية، وقصبات الكثير من القواد، دون الحديث عن معلمة معصرة السكر بمنطقة سيدي شيكر...".
وأكد رئيس جمعية أحمر للتنمية والأعمال الاجتماعية (مصطفى حمزة) إلى أن الإهمال جعلنا نضيع كذلك "العديد من الأهازيج والأغاني النسائية، والأحاجي، والألعاب الشعبية، والكثير من الكلمات التي كانت تشكل ثروة لغوية، كما ضيعنا العديد من أسماء الأعلام البشرية والجغرافية".
ورغبة منه في المساهمة في توثيق و الحفاظ على تراث المنطقة، قرر الباحث مصطفى حمزة الشروع في الكتابة عن بعض الأحداث والوقائع من تاريخنا الراهن، وأن تكون البداية بـ "سجن الشماعية" القديم والذي انقرضت معالمه بمدينة الشماعية، لكونه استقبل شخصيات وطنية كان لها وزن كبير عند الحمريين والمغاربة، يذكر منهم: (الفقيه عبد السلام المستاري، أحد الموقعين على عريضة المطالبة بالاستقلال، والوطني محمد بن الطبيب الآسفي، والحاج أحمد زغلول أحد أبرز الوطنيين ببلاد أحمر..)
 
يوم تسلل الأديب المصري المنفلوطي لسجن الشماعية للتخفيف على السجناء
الانطباع الذي كان سائدا عند الفرنسيين، هو أن اعتقال الوطنيين وتعريضهم لأبشع أنواع التعذيب من فلقة والكهرباء في الأماكن الحساسة بالجسم وبرميل الماء والشيفون والطيارة... ، وعزلهم في زنازين منفردة ومظلمة، مثل ما وقع للوطنيين علال قنبوع ومحمد الشقوري اللذين قضايا المدة المحكوم عليهما بها بسجن الشماعية، في زنزانتين منفردتين ومظلمتين في ظروف شديدة القساوة، كان يزيد من حدتها التعامل الفج للحراس، كل ذلك كان في نظر الفرنسيين، كفيل بأن يجعل الوطنيين، يتخلون عن قناعاتهم ومطالبهم العادلة، ويصبحون أكثر خنوعا، وربما عملاء له.
لكن هذا الانطباع، سرعان ما انجلي انجلاء الليالي المظلمة، أمام الهجوم الكاسح للصباحيات المتوهجة بأنوارها الكاشفة والمترجمة للمواقف الصامدة للوطنيين، الذين رفضوا بإباء وأنفة، التزلف لأصحاب التجلة من الفرنسيين، وفضلوا السجن وقسوته على أن يتقدموا بملتمس للتخفيف من مدة الاعتقال.
وأمام هذه المواقف الشجاعة والباسلة للوطنيين، تفتقت عبقرية المراقب المدني على تكليفهم بالقيام بعمل الهدف منه هو: التنكيل بهم والحط من كرامتهم، وهكذا فبعدما زارهم بالسجن وانصرف، أعطى أوامره بإخراجهم للعمل بالشارع المحاذي للسجن ، ولعلمهم بمحدودية رد فعلهم والآثار الإيجابية التي ستكون له داخل السجن، لم يعارضوا ولم يحتجوا على قرار المراقب المدني.
وفي الساعة الثانية عشرة زوالا، وبعدما كانوا في طريق العودة إلى السجن، أخذوا في ترديد الأناشيد الوطنية على مرأى ومسمع المواطنين خصوصا تلاميذ المدارس ، مما أثار حماس التلاميذ وأشاع الروح الوطنية، في فضاء مدينة كانت تعيش تحت رحمة مراقب مدني دائم الارتداء لزيه العسكري، ومحاط بمجموعة من بني جلدته يشدون عضده، ومآزر بمخبرين مبثوثين في كل الأمكنة يحصون هفوات المواطنين وأحيانا بالباطل، ومحصن بـ "مخازنية" بنياتهم الجسمانية قوية، ومدججين بالأسلحة، فكان مرورهم بالشارع العام يخيف ويرهب، ومع ذلك كان الحس الوطني بالمدينة وأحوازها الممتدة حاضرا بتجليات عديدة.
مواقف وردود فعل السجناء وخاصة الوطنيين، كانت مثار أسئلة عديدة، طرحا المراقب المدني، ومدير السجن، وكل المكلفين بتدبير بلاد أحمر، من قبيل: من أين يستمد هؤلاء السجناء كل هذه الإمكانيات للصمود والمواجهة؟ ومن هي الجهات التي تمدهم بكل هذه الحيوية والثقة في النفس؟ وأخيرا ما مدى تأثيرهم على تواجد فرنسا بالمغرب؟.
لقد كان العقلاء من الفرنسيين، على دراية بإمكانيات الصمود والمواجهة التي يتوفر عليها المغاربة، بما فيها الامتداد التاريخي للدولة المغربية، والمواجهات التي كانت للمغاربة مع مختلف الحضارات والدول، عبر سياقات زمنية متعددة، وهو ما يترجم لماذا فرضت الحماية على المغرب، ولم يفرض عليه الاستعمار المباشر، كما حدث مع القطر الشقيق الجزائر، أو الانتداب كما وقع مع دول المشرق العربي....
أن زعماء الحركة الوطنية جمعوا بين تكوين التقليدي ( القرويين، بن يوسف...)، وتكوين عصري (فرنسي إنجليزي )، مما مكنهم من تدبير المعركة بشكل عقلاني تجاوبت معه كل فئات المجتمع. ومن هنا يبقى الفكر والمعرفة عاملان أساسيان، في تحرير الأمم من الاستعمار ومن كل مظاهر التخلف، والنهوض بها في جميع المجالات.
لنا الوطني علال قنبوع، عينة من هذا النموذج الذي يستحضر أهمية الفكر والمعرفة، في بناء الإنسان وتنمية قدراته على التحمل والصمود، من أجل تحقيق أهدافه. فيوم وصول علال قنبوع رفقة الوطنيين إلى سجن الشماعية، ودخوله لزنزانته المنفردة والمظلمة، تسلل معه في غفلة من الحراس، الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي، من خلال مؤلفاته: "العبرات" و "النظرات" و "ماجدلين" و "أنا وكارنينا"، حيث صرف مدة حبسه في قراءة هذه الكتب تحت ضوء الشموع ، فكان ذلك البلسم الشافي، والمؤنس الجميل، والطاقة المجددة لفكر الرجل، والمحددة لمصيره النضالي المفعم بالحيوية والنشاط.
وقبل انقضاء فترة اعتقال وطنيي أسفي بحوالي 48 ساعة، تم إحضار معتقلين آخرين من سجن أسفي إلى سجن الشماعية ويتعلق الأمر بالمرحوم عبد السلام بن عبد المجيد ومحمد بن الطبيب لقضاء ما تبقى من فترة اعتقالهما بسجن الشماعية .