محمد وداود: المدرسة المغربية أية قيم نريد؟

محمد وداود: المدرسة المغربية أية قيم نريد؟ محمد وداود

يشكل موضوع القيم أهمية كبيرة عند كثير من الباحثين، أخذ عند بعضهم شكل تأمل فلسفي، وعند آخرين اتجاها عمليا تطبيقيا فأصبح جزءا من دراسات علم النفس الاجتماعي، وللقيم علاقة وطيدة بثقافة المجتمع وتوجهاته وأحكامه واتجاهاته وسلوكه، لذلك كانت المدرسة كمؤسسة اجتماعية تحظى بقيمة كبيرة خاصة حين يكون الأمر يتعلق بنقل القيم وتمريرها في سلاسة وانسجام مع توجهات المجتمع واختياراته، فالمدرسة فضاء حيوي لبناء القيم وتجديدها واكسابها بعدا عمليا، وبعيدا عن الأدوار التقليدية للمدرسة في ترسيخ قيم المحافظة وعن الصراع بين ما هو حداثي وأصيل وهو صراع بني على أسس غير سليمة، فالقيم النبيلة هي قيم كونية لا تتبدل ولا تتغير، فالحرية والكرامة والعدالة قيم تناقلتها الأجيال وسعت إليها الإنسانية منذ فجر التاريخ. وبعيدا عن كل اللغط الذي يصاحب موضوع القيم يسعى هذا المقال لتحديد القيم التي لا يختلف في راهنيتها وأهميتها ودورها في حياة الأفراد والمجتمعات أي من الباحثين والتربويين.

قيم بناء الذات الفردية والجماعية رهان التربية المستقبلي

نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لمواطن مؤهل يستهدف المستقبل ويبني جسور التواصل مع الآخر، متسم بالرصانة والتعقل وممتلك لشخصية متوازنة روحيا وجسديا وعقليا قادر على مواجهة التحديات.

يتأسس عالم اليوم على إنتاج مبادئ بسيطة عالمية تقوم على تبادل لا حد له، تؤمن بإنتاج قيم تتبلور إثر النقاش وتحتضن في ثناياها إنسية بالغة التعقيد، تمزج بين مفاهيم التنوع والاختلاف والتعددية وما شابه. إن القيم القرن الواحد والعشرين حصل فيها تبدل جلي مع تنامي الاستقلالية والمسؤولية الفردية، فالإلزام لم يعد مجديا مادام الفرد وفقا لنظرية كانط - الفرض الجازم - يبني قيمه الخاصة. إن الانسان هو النقطة الاساسية التي يجب ان ننطلق منها لذلك ينبغي أن نعيد النظر في كل شيء.

إن المدرسة مطالبة من خلال مناهجها وبرامجها وأنشطتها المتنوعة بترسيخ فكرة مفادها أن هناك رابطا وثيقا يجمعنا بالآخر انطلاقا من قيم نتقاسمها معه، وأننا مرتبطون بمصير مشترك فنحن نعيش حاليا انفعالات مشتركة من خلال وحدة الشعور التي ترسيها المجالات الرياضية والموسيقية والاستهلاكية. إن الاعتراف بأن الخير والجمال والحقيقة أهداف يطمح لها كل الناس،إ ن القيم في نبلها لا ينفصل بعضها عن بعض.

المدرسة مطالبة بالإثبات عمليا أنها مؤمنة بالقيم المستقبلية المرتكزة على مسلمات ثابتة ومعتقدات راسخة، ومؤمنة بقوانين الحق والجمال والخير المحفورة في الأذهان بحروف لا تمحى. ينبغي كما أسس لذلك نيتشه اضفاء بعد جمالي على القيم واعتبارها كما فعل فوكو عملا إبداعيا فنيا حتى لا يتم تجميدها في قوالب ثابتة. إن التحكم في الذات وفي الطبيعة أساس كل فلسفة تنويرية وأساس كل نظام اجتماعي يتغيى الاستمرارية.

المدرسة اليوم في قلب المشهد الحواري والثقافي فأية مدرسة نريد؟ هل المدرسة التي تكرس التبعية والجمود، أم المستجيبة لجاجات بناء المعرفة واستثمار التقدم الهائل للوسائط المعلوماتية والتواصلية التي جعلت العالم قرية صغيرة يختزلها هاتف نقال؟.

إن التربية على القيم اليوم تتأسس على مستوى الوعي والوجدان والمشاعر باعتبارها سلوكيات ومواقف، كما أنها تتأسس على مستوى الممارسة داخل فضاءات الدرس وفي قاعات المؤسسات التعليمية وفي كل زوايا المجتمع المدرسي بكل تفاعلاته، وبالنظر إلى الوسائل والأدوات والآليات التي تعتمدها المدرسة في بناء القيم نجد آلية الخطاب بوصفه آلية لنقل القيم عبر المضامين الدراسية، لذلك ينبغي أن نولي هذا الخطاب ما يستحقه من الأهمية، كذلك تعتبر القدوة آلية مهمة فالمدرس ينبغي أن يقدم المثال والقدوة والنموذج في السلوك والمعاملة، وتعتبر الأنشطة الرياضية والثقافية والفنية آلية مهمة ينبغي أن تحضى بمزيد من الاهتمام والتقدير.

المدرسة فضاء لترسيخ حرية التصرف والتعبير المتوافق مع القانون، والشعور بالأمن والتفكير الإرادي بعيدا عن الإكراه وتبني قيم التعاون والمشاركة وقبول الاختلاف والحوار، فتصبح بذلك وسيلة للتجديد والتغيير، ومصدرا للإشعاع الفكري والثقافي فلا تنحصر أنشطتها ووظائفها في إنتاج نخب مدرسية تتحمل مستقبلا مسؤوليات وظيفية ومهنية بل نريدها فضاء للمبدعين وأداة لتعديل السلوك وتشجيع القدرات والمواهب من خلال احتضان انشطة مخلفة ومتنوعة وهادفة.

إن المدرسة بهذا المعنى تصبح وسيلة للتجديد والتغيير ومصدرا للإشعاع الفكري والثقافي، فلا تنحصر وظائفها وأنشطتها في إنتاج نخب مدرسية تتحمل مسؤوليات وظيفية بل نريدها فضاء للمبدعين وأداة لتعديل السلوك وتشجيع المواهب وتحفيز القدرات باحتضانها أنشطة متعددة ومتنوعة, هي اذن مجال حقيقي لترسيخ قيم المواطنة وحقوق الانسان وممارسة الديمقراطية، وإرساء الثقة بالنفس والاستقلالية في التفكير والممارسة، والتفاعل الإيجابي مع المحيط الثقافي والاجتماعي، وإعمال العقل واعتماد الفكر النقدي والتنافسية الإيجابية واحترام البيئة الطبيعية، والتعامل الإيجابي مع مختلف الروافد الثقافية والوعي بقيمة الوقت والتعلم مدى الحياة.

خاتمة

هذه هي المدرسة التي نريد، مدرسة تعمل على بناء شخصية المتعلم بناء متينا، تؤهله للانخراط في مجتمع المعرفة، وممارسة الشأن العام والعمل على تنمية الذات في انسجام تام مع خصوصيات المجتمع وهويته وثوابت الوطن وحضاراته، مواطن منفتح على منجزات الحضارة الانسانية بمختلف مشاربها وفي جميع مناحيها، يحترم ذاته كما يحترم الآخرين، يقدر قيمه كما يقدر قيم الآخرين يعيش في وئام وسلام دائمين ويسعى لخدمة البشرية جمعاء.