"يَوْمِيَّاتْ قَنَّاصْ" فضل "الصَّيْدَةْ"على ترقب وضع المولود الجديد ليلة مخاض زوجته (3)

"يَوْمِيَّاتْ قَنَّاصْ" فضل "الصَّيْدَةْ"على ترقب وضع المولود الجديد ليلة مخاض زوجته (3) صورة الدكتور نور الدين الزوزي مع النشاش عبد الله

بمناسبة عِيدْ اَلرّْمَا، نشرت "أنفاس بريس" و "الوطن الآن" حكايات من "يَوْمِيَاتْ قَنَّاصْ" تحت عنوان "لَا تَكْتَمِلَ "فْرَاجَةْ" اَلْقَنْصْ إلا برفقة "اَلنّشَّاشْ" الحاذق واليقظ والصياد الماهر"، تناولنا فيها كيفية الاستعداد ليوم افتتاح موسم القنص الذي ينطلق الأحد الأول من شهر أكتوبر من كل سنة، و استرجعنا مع صديقنا القناص نور الدين الزوزي مشاهد من عمليات الصيدة التي تتأسس أصلا على مُرافِقْ القناص الذي يسمى في أعراف وعادات الصيادة بـ "اَلنّشَّاشْ" حيث استحضرنا نموذج عبد الله النقرة الذي يشهد له بالحنكة والدربة في ميدان تقفي أثر الوحيش والطرائد.

وسردنا في الحلقة الثانية حكاية "شِيخْ اَلرّْمَا مَعَ الذِّئْبْ"، أما في الحلقة الثالثة من هذه اليوميات التي حكاها ضيف الجريدة الطبيب نور الدين الزوزي سنورد في مقالنا حكاية غريبة وهي من النوادر الجميلة التي اقترف فصولها الشيقة أحد الصيادة ليلة افتتاح موسم القنص، حين كانت زوجته على أهبة الوضع وهي تتألم من شدة المخاض...

هدفنا من تقديم هذه النوادر هو إشراك القراء في محكيات تساعد على فهم سلوك "اَلصَّيَّادَةْ" ومعاناتهم مع "اَلْبَلْيَةْ" التي يتجرعون من وقائعها ألطف الذكريات وأجمل المقالب وأشرس المواقف مع الطرائد.

بين مطرقة "اَلصَّيْدَةْ" وسندان مخاض الزوجة

رتب لكل تفاصيل افتتاح موسم القنص، وخطط لكل كبيرة وصغيرة حتى لا تضيع من بين يديه فرصة الإحتفال بعيد "الصَّيْدَةْ" صباح يوم الأحد، ففكر في أن يقتني كل ما يحتاجه البيت من أغراض وحاجيات ومشتريات من محلات تجارية توجد بمركز الجماعة الترابية (صخور الرحامنة) التي شد الرحال إليه يوم السبت على متن عربته التي تجرها دابة من فصيلة البغال، من أجل التبضع.

عاد إلى البيت/الخيمة بعد آذان صلاة العصر، محملا بكيس دقيق من نوع "اَلْخَالَصْ"، و قُفَّةْ الخضروات، وما تيسر من لحم الغنمي، إلى جانب "دَوَّارَةْ"، دون أن ينسى "رَبْطَةْ" النعناع وقالب السكر وعلبة الشاي المفضلة، وقرطاس الشمع "اَلصَّبّاحِي" لإضاءة غرف ومرافق البيت، وبداخل كيس بلاستيكي مستقل وضع"طَرْفْ ثُوبْ حَيَاتِي" أبيض اللون ملفوف في صفحة جريدة وطنية، مع أغراض "اَلنَّفْقَةْ" من "حِنَّاءْ وقُرُنْفُلْ ووَرْدْ ورَيْحَانْ" وقليل من اَلْبُخُورْ الذي يطرد النحس ويحصن المولود الجديد، دون أن ينسى مَطْلِيَّةْ لَعْكَرْ اَلْفَاسِي وقنينة صغيرة الحجم من عطر ساحر يروق الزوجة الحامل التي كان يمني النفسبأن تضع حملها ليلة السبت دون حرج، ليتفرغ لفجر يوم الأحد، الذي يعتبر في عرف "اَلرّْمَا" سانحة افتتاح موسم القنص دون مشاكل تعكر صفو زملائه الصَّيَّادَةْ الذين التزم وحدد معهم ساعة الصفر، دون أن يخبرهم بملف مخاض زوجته.

مغص ووجع مشترك في زمن الولادة

تحت سقف غرفة متواضعة زُيّن بالخشب والقصب، فراشها مجرد حصير من الدُّومْ، وبَطَّانِيَّةْ صوفية، وقطعة حَرْشِيشْ اشتغلت عليه "مُولَاتْ اَلدَّارْ" منذ شهر أبريل من نفس السنة بمختبر اَلْمَنْسَجْ، وبعض الوسائد ذات الألوان المتنوعة.داخل هذا الفضاء تحلقت حول زوجته الحامل لالة "اَلْقَابْلَةْ" ومساعدتها إلى جانب والدتها التي أكثرت من حركة الدخول والخروج، وهي تتألم مثل ابنتها التي لم يفرج عن مولودها الجديد.

طال الإنتظار، وطال معه ترقب الوضع، و عقارب الساعة تلتهم الزمن الضائع، وكان ذهن "اَلرَّامِي" موزع بين حدث الولادة، وفرصة عيد الصَّيْدَةْ فجر يوم الأحد، فتناسلت السيناريوهات، ومع ذلك كان عاقدا العزم على القرار الصعب الذي يضمره في نفسه.

لم يعد يفصل "اَلرَّامِي" عن "لَفْجَرْ"، أي ساعة الخروج للقاء رفاقه "اَلرّْمَا" سوى ساعتين بالتحديد، لكن المولود الجديد أصر على تأخير ساعة الولادة، وكانت الزوجة تصيح بأعلى صوتها من شدة ألم وجع المخاض. ولم يجد "رَامِينَا" سوى إعادة طرح سؤاله الذي كرره عشرات المرات على مسامع النساء: "مَا دْرَى؟ قْرِيبَةْ مَسْكِينَةْ؟ الله يْفُكْوْحَايْلْهْا...الله يَارْبِّي الله.."؟ بل أنه في بعض الأحيان كان يحس بوجع ونغص في بطنه وكأنه المعني بالولادة.

تنفيذ خطة اللحاق بـ "اَلرّْمَا" دون ضجيج

حسم الأمر، وقرر أن يخرج للقاء زملائه قبل وصولهم أمام اَلْخَيْمَةْ، لكي لا يفتضح أمره أمام المتواجدين بغرفة الولادة، كيف له أن يترك زوجته وهي تتألم من شدة المخاض؟ لكن كيف يمكن له أن ينكت بعهده والتزامه للمشاركة كعادته في افتتاح موسم الصيد هذه السنة؟

"لن أخرج من الباب تفاديا لضجيج اَلزَّكْرُومْ الصدئ"، ـ حدث نفسه لتنفيذ المخطط ـ فوضع قدميه بين ثقوب الحجارة، وتسلق جدران البيت المحاذي لغرفة الولادة، ورمى بمستلزمات وعُدَّةْ الصَّيْدَةْ فوق سقف الإسطبل، وترك جَلّابَتَهُ الصوفية "اَلشَّخْمَةْ" التي كان يتدثر بها طيلة الليلة المشئومة، وارتدى بدلة القنص وتأبط بندقية "الجْوِيجَةْ" وحقيبة جلدية خصصها لبعض الأغراض، ونطّ خارج اَلْخَيْمَةْ مسرعا نحو أكوام ألواح الصبار وزحف على بطنه بجانب قَرْبُوصْ اَلتِّبْنْ، وتسلل إلى الطريق الضيق المفضي نحو هضاب الرحامنة مثل الهارب من قبضة "جَدَارْمِيَّةْ".

مع تسلل أشعة الشمس وملامستها تربة أراضي الرحامنة، وانطلاق "لَفْرَاجَةْ" رفقة "اَلرّْمَا" اندلع صوت القرطاس يلعلع فوق رؤوس الأرانب البرية وأجنحة الحجل، وكان بطل الحكاية، في قمة تألقه بين رفاقه الصّيّادة، حيث أصاب أرنبين وحجلتين، وكان نصيب "اَلرّْمَا" مثل نصيبه أو أكثر. لكن مع تمكن العياء من زملائه الذين استبد بهم عياء قطع مسافات التجوال بين الهضاب و الشعاب والوهاد وتضاريس المنطقة قرروا أخذ قسط من الراحة والتهام وجبة الغذاء.

 ندم وبكاء طلبا للنجدة والبحث عن الحل؟

بمجرد أن وزعوا حصص الأكل فيما بينهم تحت ظل أشجار الكليبتيس بجانب مجرى وادي جاف، أجهش بطل حكايتنا الغريبة بالبكاء مثل امرأة فقدت زوجها على حين غرة، ودخلت في "اَلْعَدَّانْ" ترثي فقيدها بنواح يفجر الكبد والقلب.

 ـ وأنت آشْ عَدَّكْ السي محمد؟ يا وَدِّيآشْ بِيكْ؟ أَمَالَكْأَصَاحْبِي؟ آشْ وَاقَعْ؟

ـ غَا سَكْتُوا عْلِيّا رَانِي دَرْتِ فْضِيحَةْ مْعَ لْمْرَا، خَلّيتْ مُولَاتْ اَلدَّارْ تَتْوَجَّعْ، مَازَالْ مَا وَلْدَتْ وَخْرَجْتْ بْلَا مَا نَحْضَرْ لِيهَا؟ مَا عْرَفْتْ وَاشْ تْفَكَّتْ وأَلَّا مَاتَتْ؟ الله يَسْمَحْ لِينَا مَنْ اَلْوَالِدِينْ؟.

ـ هَذَا وْكَانْ، نُوضْ غْسَلْ دِمُوعَكْ، وْرَاهْغَايْكُونْ غِيرْ اَلْخَيْرْ مْعَ اَلشُّرْفَا اَلرّْمَا وْلَادْ بَابْ الله.

مع بداية انسحاب الشمس نحو المغيب لتودع يوم عيد الصّيّادة، وتضرب معهم يوم جديد بعد أن أشبعوا رغبتهم الجامحة في القنص، قفل "الرما" عائدون نحو الديار، بعد أن سلموا كل الطرائد التي قنصوها طيلة اليوم من حجل وأرانب، لصديقهم عربون وفاء للعشرة والملح المشترك، وهدية مناسبة للزوجة "اَلنَّافْسَةْ" التي لا محالة ستكون قد وضعت حملها بسلام وأطلق صيحته الأولى ليسمعها لقبيلة الرحامنة.

أشرف بطل الحكاية على باب الخيمة، محملا بالطرائد، متأبطا سلاح القنص، مثل جندي كان يحرس حدود الأرض والعرض، وولج من "اَلْخُوخَةْ" مرفوع الرأس، وهو يصيح في أرجاء البيت مهللا: "عْلَى سْلَامْةْ عْمَارَةْ اَلدّارْ، نْهَارْ كْبِيرْ هَذْا". حيث كانت إشارة الولادة بادية للعيان من خلال رائحة شواء "الدَّوَّارَةْ" وعطور لبخور، والنَّفْقَةْ، تملأ أرجاء الفضاء.

على شرف عْيَالَاتْ الدّوّارْ، رْفِيسَةْ "اَلنَّافْسَةْ" بالأرنب والحجل

وضع البطل، ما جادت به الطبيعة يوم القنص بين يدي زوجته، وارتمى على رأسها يقبله، وحمل بين دراعيه المولود الجديد، وهو يصيح قائلا: "غَادِي نْعَلْمَكْ اَلصَّيْدَةْ يَا وْلِيدِي. شُوفْ تْبَارْكَ الله آشْ جَبْتْ لِيكْ ولِأُمِّكْ...هَا لَحْجَلْ هَا أْرْنَبْ ...الله يَخْلَفْ عْلَى قُرِطَاسْ اَلصَّيَّادَةْ".

رغم أن الزوجة "اَلنَّافْسَةْ" كانت قلقة وغير راضية على بطلنا الصّيّادْ، إلا أنها تقبلت الهدية الثمينة، وسامحت زوجها "اَلْمَبْلِي واَلْمُلُوعْ" وهي تصيح بأعلى صوتها فرحا: "يَا حْلِيلِي أرْنِيبَاتْوُحْجِيلَاتْ، غَدَّا إِنْشَا عَ الله نَّصْبُو عْلِيهُمْاَلرْفِيسَةْلَعْيَالَاتْ اَلدَّوَّارْ... الله يَخْلَفْ عْلِيكْ ويَخْلَفْ عْلَى اَلرّْمَا".