عبد الالاه حبيبي:الغيرة ليست مرضا أو عيبا، بل هي نبض الحضارة الحقيقية حينما لا تكون عنفا ...

عبد الالاه حبيبي:الغيرة ليست مرضا أو عيبا، بل هي نبض الحضارة الحقيقية حينما لا تكون عنفا ... عبد الالاه حبيبي
قضت الدول الغربية على الغيرة معتبرة إياها مرضا نفسيا ينبغي استئصاله من النفوس منذ صغرها، حتى عندما يكبر الطفل يجد نفسه قد فقد أغلى ما يملك الإنسان في هذا الكون : الغيرة على النفس والعرض والأرض والشرف والرجولة ...
كان لابد  للعقل أن يتعرض لعملية غربلة  مرورا من التحليل النفسي لبيان أن الغيرة هي حالة مرضية لأنها تحيل على نفسية وسواسية،  تتشبث بكل ما تحب، راجية امتلاكه إلى الأبد وكأنه شيء منها أو ملك لها...وليس مختلفا عنها... هكذا ستتم تصفية قيما كثيرة لكونها تمثل "لوثات نرجيسية"  مضافة للنفس البشرية...وليست من صميم هويتها الخلقية...
النفس البشرية في أصلها الفطري غضبية، لأنها ترفض الإهانة، وتنتفض للشرف، وتقاوم الظلم والبغي، وتذود عن العرض والأرض، وتعتبر الأهل والأبناء والأسرة خطا أحمر لا يجوز تداول الكلام عنهم، أو حتى التسلي بسيرتهم، أي يُرفض قطعا المساس بقدسيتهم حتى ولو في إطار الهزل أو التفكه... 
ضمن هذا المنظور كانت الأمومة مصدرا للكثير من القواعد الضابطة للعلاقة بين الأبناء والآباء، بين الصغار والكبار، بين الأحفاد والأجداد.. كانت العلاقة مبنية على التوقير والإنصات وتجنب الصدام حتى ولو كان رأي الكبار خاطئا، كان من اللازم التعفف في حضرتهم اتقاء المساس بقيمة روحية وهوية اجتماعية وانتماء حضاري عام... التواضع في حضرة الكبار قيمة أخلاقية مثلى...
إذا قرر الغرب أن ينقض الغيرة من مجال الهوية الإنسانية، أي أن ينفيها، واصفا إياها بالاضطراب النفسي الذي تنتج عنه  أفعالا منافية للعقل، ومتصادمة مع الحقوق المدنية الفردية والجماعية، وتدخلا في أمور لا تعني الشخص الذي عليه ألا يتجاوز حدود ما يهمه فقط كفرد في مجتمع تحكمه قوانين وتشريعات تحمي الجميع من هيمنة الجميع، أي أن الدولة  ترسم لكل واحد مجال فعله حتى لا يقتحم ما يسمى حميمية الآخرين... ففي بلادنا لا نزال نحن إلى تلك الأنظمة العرفية التي تسمى تقليدية وهي كانت قد شكلت سدا منيعا ضد كل الغزوات الخارجية سواء كانت عسكرية أو دينية أو ثقافية أخلاقية... لأن الذي كان يضمن وحدة الناس وتعاضدهم هو انتماؤهم لنفس البنية النفسية وقيمها الصلبة التي تعتبر الغيرة هي محركها الأساس..."الإنسان يموت من أجل "ولده، بلده، أرضه" عبارة كانت تتردد كثيرا بين الناس لكنها اليوم أصبحت من الأحاديث الجالبة للضحك والسخرية...
من هنا بتنا نرى في الغرب  كيف يثور الابن في وجه الأب دون أدنى حس بالحياء، وكيف يتخلى الآباء عن أبناء أنجبوهم من علاقات لا تنظمها سوى تجاذبات لحظية لينتهي هؤلاء المواليد في المراكز الخيرية أو لدى أسر بديلة، حيث أن الهوية تصبح ملكا للدولة وحدها وحكرا عليها ولا توزعها على الأفراد إلا حينما يتخلون عن هويتهم الشخصية أو الجماعية، ولعل هذا ما يفسر صعوبة قبول المسلمين بهذا الوضع، أي التخلي عن هويتهم الروحية والانحشار في الهوية الكلية التي لا مكان فيها لأي مرجعية أخرى، بحيث لا تقبل منافسا حضاريا، ولا خصما ثقافيا، ولا خطرا هوياتيا  من مصادر دينية، قد يزعج بغضبيته أو بغيرته على عرضه وأهله وأرضه ودينه وثقافته وأرضه القيم المدنية المتأصلة في الدولة العصرية...
 الغيرة التي نتحدث ليست ذلك الوسواس القبيح الذي يصيب رجلا يفكر دوما في أن زوجته تخونه ويعيش في كوابيس الخوف من أن تصبح يوما ملكا لشخص آخر، مما يفقده صوابه، ويشرع في التربص بها، والتجسس عليها، وتعقبها طمعا في ضبطها في حالة تلبس حتى يستريح من وساوسه المرضية... ليست هذه  تلك الغيرة التي أتحدث عنها، هذا سلوك مرضي لا يقبله عقل ولا شرع  لأنه سلوك مأزوم ومنبوذ في كل المجتمعات الإنسانية...
 الغيرة التي اقصد هي الانتفاض حينما تمس الأعراض والقيم الإنسانية الكبرى، حينما يتعرض الوطن للتهديد، وحينما يضطر الأهل للتسول وتقوم غيرة عنهم بالتضحية بنصف مرتبك لفائدة أمك أو أبيك حتى تحفظ ماء وجههم وترفع مقامك في الأرض والسماء، الغيرة هي التعفف وحب النفس الزكية، هي المبدأ الأخلاقي الذي إذا انطفأت جذوته أصبحت كل الأبواب مفتوحة لممارسة كل أنواع الهتك  والعربدة في النفس والأسرة والأرض والوطن...