كوكاس:"ترانيم يعقوبية" أنطولوجيا أدبية برسم الحنين ووشم الفضاء ونبل الاعتراف

كوكاس:"ترانيم يعقوبية" أنطولوجيا أدبية برسم الحنين ووشم الفضاء ونبل الاعتراف عبد العزيز كوكاس، وكتاب "ترانيم يعقوبية"
يبهجني عنوان كتاب "ترانيم يعقوبية"، تشدني هذه الشمس الساطعة في سماء الغروب لغلاف هذا السجل أو المدونة الأدبية التي أسدى منجزوها خدمة كبيرة لذاكرة هذا الفضاء الذي أنتج في ظروف عصية عن التخيل يراعات بصمت أثرها على صفحة الفن والأدب المغربي، حتى ليبدو الكتاب إعادة تملك لإبداع هؤلاء الكتاب المختارين بعناية فائقة وبذائقة أدبية لا تخفى.. "ترانيم يعقوبية"، بالعودة إلى المعجم نجد كلمة ترانيم التي مفردها ترنيمة تسبح في الحوض الدلالي للمعاني التالية: الإيقاع الخلاب، الموسيقى الطربة، الغناء العذب الحسن، ترجيع الصوت الشجي وتطريبه.. ترنيمة الموسيقى: لازمة تتألَّف من أربعة مقاطع أو أكثر لعدد من المغنِّين، حيث ينضم الجمهور للمغنِّي الأصلي، أو تكون تكرارًا لجملة الافتتاح.. وفي المعنى الديني نجد الترانيم تحيل على "نشيد يُتغنَّى به في الكنائس المسيحيَّة أثناء القُدَّاس، وموضوعه الابتهال إلى الله وحده وشكره على نعمه وقد يُصاحب بالموسيقى على آلات خاصّة"، والترنَّم صوت الحمام وهديله، وصوت القوس حين يطلق السهم لأنه يصدر صوت الحنين أو العود حين يعزف، والناي حين يحزن، والتَّرنُّمُ: التطريب والتغَنِّي وتحسين الصوت بالتلاوة ويطلق على الحيوان والجماد، حيث نقول رَنَّمَ أو ترنم الحَمامُ والمُكَّاء والجُنْدُبُ؛ قال ذو الرمة:
كأنَّ رِجْلَيْهِ رِجْلا مُقْطِفٍ عَجِلٍ إذا تجاوَبَ من بُرْدَيْهِ تَرْنِيمُ
وفي البعد الصوفي، تحيل الترانيم على تلك الإيقاعات المصاحبة بالتهليل والوقوف في الحضرة الإلاهية، نتذكر ترانيم الحلاج وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي...
نحن إذن في حضرة الطرب والغناء.. أمام مغني الحي الذي يطرب، لأن الترانيم في العنوان، كمبتدأ لخبر محذوف أو خبر لمبتدأ محذوف، مسندة بصفة "يعقوبية" التي تحيل على المكان، المَغنى، الذي هو رقعة جغرافية متحيزة في الرباط..
آه للمكان وشم سحري في عمق الذاكرة، يحضرني في كل تفاصيل جغرافيته، تاريخه، جراحه وآمال أهله، ذكريات الطفولة ونزق اليفاعة.. أحسه بمجموع حواسي، أشمه، أسمعه، أتذوقه، وأراه... تعكس الصورة التي وضعها الفنان حسن الخطاري، فضاء خاصا، لم يكن يبعد عني أكثر من خطى معدودة، نخرج من منزلنا مبتهجين بلباس البحر، نقصد "الدبو"، بالقرب منه "الكافات" التي تعلمنا فيها ونحن صغار فن العوم، "كاف صحراوة، كاف شويكة، الطّابلة"... حيث كان المرحوم "نُوفيرة" خبيرا بما لم تقله جغرافية الدبو و"والمرايصة"، لكن للدبو سحر خاص، كما كنت أسميه في إحدى محكياتي "أوطيل مولانا"، وفي الأعلى القوسان التاريخيان المنتصبان في شارع النصر، رسم تأسيس المدينة من طرف يعقوب المنصور الموحدي، من عبقهما ينهمر التاريخ مبتهجا.. كبرنا هنا.. في هذا الذي كان يسمى "دوار الدباغ" الوشم المميز للهامش، بالمعنى السياسي والفلسفي، حد الرباط في الجنوب الغربي قبل أن تتسع العاصمة وتكبر بأهلها وبوافديها وبجراحها وأحلامها، بعمرانها وثقافتها، وقبل أن يتم تحضير civiliser الاسم وتهذيبه وترقيته بربطه باسم مؤسس مدينة الرباط فيما يشبه إعادة السلطات الإدارية الاعتبار للفضاء وأهله.
وفي التذييل السفلي في الغلاف، نجد أسماء المترنمين/المغنين، الأحياء منهم والأموات: مليكة نجيب، دامية بنخويا، فاطمة الأزرق، عبد القادر الخراساني وإبراهيم زنيدر، إضافة إلى اللوحات التشكيلية للمبدع امبارك الصبان..
كتاب ترانيم ثقافية الذي يقع في 380 صفحة من الحجم الكبير، أشبه بسجل إبداعي يحفظ جزءا مهما من الذاكرة الأدبية والفنية لكتاب انتسبوا لفضاء يعقوب المنصور، هو احتفاء وتكريم بمعنى ما، بمجموعة من المبدعات والمبدعين الذي نبتوا في هذا الهامش القصي، وفرضوا ذواتهم عبر الكتابة ووشم الخط، إنه أيضا نوع من تزكية وتعزيز ثقافة الاعتراف، لأسماء عديدة جاءت من يعقوب المنصور أو مرت عبر دروبه، ومنه وجدت طريقها إلى شتى حقول الإبداع، قصة، شعرا، تشكيلا...إلخ، وتركت بصمتها، هذا الكتاب الذي يحتفي بالأثر الإبداعي، ليس سوى قطرة أولى من ثلة من الأوفياء الذين تشجّموا عناء جمع النصوص وانتقائها وتقديمها في هذا الكتاب لعموم القراء، ليس في مسعى من أشرفوا على إعداد هذا الكتاب أي نرجسية تتقوقع على ذاكرة فضاء مخصوص، بقدر ما هو احتفاء بالفضاء ومبدعيه، خدمة للكتابة الأدبية عموما.. ذلك أن معظم المبدعين اكتسى نصهم شهرة وطنية، وقد قام الصديق كمال بنلحسن بمجهود جبار ومحمود في انتقاء النصوص وتقديم الكتَاب والكُتاّب المحتفى بإبداعاتهم بلغة أنيقة ومُبهرة.. تحولت إلى نص إبداعي ليس على هامش النصوص المقدمة وإنما نصا مصاحبا، بالمعنى الفلسفي للمصاحبة: العشرة والمرافقة والحفظ والعناية والملازمة...
منح النص نسغ الحياة من جديد، هكذا تحيى نصوص المبدع في كتاب جديد "ترانيم يعقوبية"، تخلد المكتوب والكاتب بنوع من العرفان، تجاور نصوصا أخرى، أو أجناسا وفنونا.. حيث الشعر يعيش جنبا إلى جنب مع السرد والتشكيل.. نصوص تحاور بعضها البعض، تحكي عن نفسها، تقول ذاتها وزمنها، تشير وتلمح إلى كيانات وأحلام وهيئات وشخوص، تحمل وشم جراح وأماني، انكسارات وانتصارات..
لا ينتسب المرء إلى أرض لا موتى له تحت ترابها، كما قال غابرييل غارسيا مركيز في رائعته "مائة عام من العزلة"، لقد مات منا الكثيرون، لكن خلد العديدون منهم أسماءهم، إنهم لا زالوا أحياء بيننا، كلماتهم لم تغب، وللأحياء منهم مزيدا من العطاء، لهم جميعا نبتة الخلود..