مصطفى المتوكل: حتى لا يتسلل اليأس، ويتعطل السمع والوعي والعمل

مصطفى المتوكل: حتى لا يتسلل اليأس، ويتعطل السمع والوعي والعمل

قال تعالى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(23) ) سورة الانفال

سنضع الآيات المباركات من سورة الأنفال في سياق أي زمن، وأي شعب، وأية ملة، ذلك أن الذين آمنوا بالرسالات السماوية وتلقوها من أنبياء أزمنتهم القديمة واستمروا في الايمان بها  وقراءتها والاستماع لتلاوتها، بلوأحيانا بحفظها كلمة كلمة عن ظهر قلب، فكلهم معنيون بالإجابة على الإشكالات التي تطرحها الآيات، وقياسا على ذلك كل من يستمع ولا يعقل ولا يستفيد ولا يطور معارفه التي تصلها بكل وسائل الإدراك يدخل في هذا التوصيف البديع يعرف الحيوان العاقل المسؤول عن أفعاله وأقواله وقراراته وسياساته، وغير العاقل وهما نوعان "الحيوان الانسان" و"الحيوان الحيوان"، فالحيوان الإنسان إذا كان عاقلا ولم يتحمل مسؤولياته فإنه سيدخل ضمن الذين  يرفع عنهم القلم شرعا وقانونا ومنهم المجنون والصبي، أما "الحيوان الحيوان" فإنه لايساءل ولا يحاسب على ماله علاقة بسياسات وأفكاروأفعال  وقرارات الإنسان،  بل يحاسب الإنسان على أفعال ارتكبها الحيوان الذي في عهدته أيا كان نوعه.

إن الآيات تتحدث عن ظاهرة ترتبط بالإعراض  والتولي في علاقة بتفاعل الناس فيما بينهم وخاصة المسؤولين منهم:    

ـ الإعراض عن الكلام أثناء إلقائه برفض الاستماع له وعدم  إيلائه أي  اهتمام  بعد ذلك.

ـ ادعاء وتصنع السماع دون تحقق المطلوب  معنى وفهما .

ـ التولي بعد تحقق السماع والمعرفة الكاملة، أي الإدبار والإعراض، بتجاهل كل ما سمعبل والعمل بنقيضه، وللإشارة فالتولي يذكر في حالة تعتبر من الخيانات العظمى في كل الديانات والحضارات والثقافات، وهذا  قد يتسبب في هزائم و حروب، وإسقاط حضارات ودول  أو إضعافها وإذلالها، والأمثلة على ذلك  من التاريخ كثيرة ومختلفة، كما يمكن أن  يتسبب  في السياسة  والأخلاق في  هزات وزلازل  تتطلب  حيطة وحذرا  وتعقلا وصبرا وعزيمة لاتلين وعملا لاينقطع  حتى لا يتسلل  اليأس و الفشل في النفوس ويعطل  كل المبادرات المباركة، وحتى لايتعطل السمع والوعي والعمل.

ولقد شبهتهم تلكم الآيات بالدواب  ليفهم الجميع  أنهم معروفون عنده سبحانه  كما يمكن للناس أن يتعرفوا عليهم انطلاقا من مواقفهم وكلامهم وأفعالهم وممارساتهم في السراء والضراء، وأنه لايمكنهم التمادي في استغفال أو  استبلاد  أي أحد، ونقف تبعا لذلك على :

ـ "إن شر الدواب  الذين لايسمعون  ولا يتكلمون ولا يعقلون..." و "ـ وأنهم و لو أسمعوا  فإنهم يتولون ويعرضون..."ونقف في  الآيات على ربط  منهجي  بين الطاعة و المعرفة  بالسماع كمدخل لمسارات متطلبات استمرار الخير وتقويته والعدل بكل تجلياته بالدولة والمجتمع.

فعند الحديث عن السماع فليس معناه  مجرد الاستماع، بل الفهم والوعي والاقتناع  ثم الإيمان التطبيقي العملي، ومن هنا فالله أرسل أنبياء ومرسلين من الناس ينتمون لمجتمعاتهم وثقافاتهم ويتكلمون لغتهم، وإلا لن يتحقق إلا السماع فقط، ولأصبح ما يسمع عبارة عن أصوات غير مفهومة و لامعنى لها، وحتى إن سمع وفهم اللغة والمعاني ودلالات الكلام وليس مؤمنا ولا مقتنعا به  فيعتبر نفسه غير ملزم به ولا يعنيه وبالتالي لايتفاعل معه إيجابا وقد يعمد إلى المخالفة.

إن الدواب - أي البهائم -  لايمكن التعامل معها على أنها مثلنا نحن البشر الذين ندب معهم على هذه الارض في الفهم  والقدرات العقلية ...إن الوعي وتطور المعارف والعلوم والاجتهاد يكون بالتوظيف المتناغم والمنسجم لآليات التواصل والاتصال مجتمعة أو ببعضها دونبعض، وفيحالة تعذر تحقق ذلك وعدم التجاوب  مع ما فيه مصلحة عامة دون تعارض مع المصالح الخاصة يقترب الإنسان إلى مستوى التشبيه بـ"الدواب" بعدم السماع، ولا إتباع أحسن الكلام، ولاما فيه من نصح ومعارف وخير، بغض النظر عن الذي يكلمك أو ينصحك أو يحدثك، فالله تكلم مع الإنسان عن طريق أنبيائه وكتبه ورسالاته، والمفكرون والعلماء تكلموا في حلقات التعليم ومجالس الإبداع، وتواصلوا بكتبهم وأبحاثهم وإبداعاتهم، وحتى من الذين عندهم علم وخبرة مميزة عن الناس، بل وحتى من يطلق عيهم المجاذيب والدراويش، لا يخلوا  الاستماع إليهم من فوائد وجميل الحكم.

إن تأمل الطبيعة والكون وتعاقب الليل والنهار يعلم الانسان، والاستفادة من الأخطاء والجهالات تقوي من فرص النجاح والتطور، وحتى مجتمعات الحيوانات والحشرات، وأشكال الغطاء النباتي كلها مجالات أمرنا شرعا وعقلا أن نتعلم منها ونستكشفها ونستفيد من طرق تدبيرها عيشها و وجودها.إن عدم ربط التعلم وكل ما أكتسب من معارف و مهارات بالواقع العملي تنزيلا جيدا وتطبيقا أفضل لامعنى له ويصدق عليه قوله تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً" سورة الجمعة. والأمر متشابه  سواء حملوا التوراة أو الإنجيل أو  القرآن أو أية معرفة مفيدة، أي أنهم يعلمون ولا يعملون بما يعلمون .

ونحن نتحدث عن السماع لابد أن نشير إلى من ليس لهم أي عذر في عدم الفهم ولا عدم الإتباع بالاقتناع، أي العلماء والمثقفون  وكل من يتحمل أية مسؤولية  لها علاقة بالناس،  بطبيعة الحال قد يكون هنا سماع وفهم مع عدم الاقتناع جزئيا أو كليا، وفي مثل هذه الحالات  قال تعالى "ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" سورة الكهف. والتنبيه هنا لتجنب أن يمتد الحال من عدم الاقتناع ولا العمل  إلى  التعطيل و العرقلة، أو العمل بالنقيض والتمادي في التعصب للقناعة الشخصية أو الاستمرار على الخطأ ضدا على المصلحة العامة الراجحة والثابتة.قال ابن إسحاق في هؤلاء إنهم "المنافقون" "لأنهم يظهرون أنهم سمعوا واستجابوا وليسوا كذلك ".

إن الاستماع يجب أن يكون متبادلا بين الجميع، لتتحققمعرفة واقع  الناس وأحوالهم بالبوادي والحواضر وأعالي الجبال والسهول والصحاري، وبالقطاعات الخدماتية صحة وتعليما ونقلا ومستوى عيش وتشغيلا، فكل المتضررين  يتكلم واقع حالهم بوضوح لا لبس فيه والعديد منهم يسمعون شكاياتهم ومظالمهم ومطالبهم للمسؤولين يوميا، ويتكلمون عن برودة التجاوب معهم، و ضعف في الفعالية، والتسويف والاهمال، و يتكلمون  وأحيانا يصيحون ويبثون  تظلماتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي،أو الاعلام الورقي، وبالنقابات والاحزاب ومختلف الهيئات المدنية والحقوقية. إن تحقق السماع والوعي والعمل فيه تدبير جيد للمشاكل والملفات والمتطلبات، وفيه حكامة تثمن الزمن والامكانيات المادية والثروة البشرية، وفيه تجنب للأسوأ بجميع تمظهراته ومخاطره. إن الإعراض عن مطالب الناس وتظلماتهم ومطالبهم المشروعة من علامات غياب  الاستماع وعدم التعقل.

ولقد اختلف أهل العلم بين من يرى أن الخطاب في تلك الآيات من سورة الانفال يهم فقط المؤمنين ويدعوهم إلى تجديد الطاعة وعدم التولي، ومنهم من يرى أن الخطاب موجه للمنافقين، والله اعلم.

قال تعالى في سورة الأنفال: " يا ايها الذين آمنوا  استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون  (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)".