نورالدين السعيدي حيون: العقلانية السياسية في فكر عبد الله العروي من خلال كتابه .. " مفهوم الدولة " (الحلقة الأخيرة)

نورالدين السعيدي حيون: العقلانية السياسية في فكر عبد الله العروي من خلال كتابه .. " مفهوم الدولة " (الحلقة الأخيرة) نور الدين السعيدي حيون (مع مؤلف عبد الله العروي "مفهوم الدولة")
"بفضل علمه بالتاريخ الأيديولوجي للعالم العربي وكذا لأوروبا، وبمعرفته لمناهج التحليل التي كونها العالم الحديث (....) وبفضل تفتحه ويقظته بإزاء كل ما يستحق عناية إنسان ذكي وحر، أخضع (العروي) أهم قضايا العالم الذي ينتمي إليه إلى أعقل تحليل ممكن". ماكسيم رودنسون
الدولة والسلطة أية علاقة؟
أية علاقة للدولة بالسلطة، وللسلطة بالدولة؟ من عانى السلطة، أية سلطة، يسمع في نهاية المطاف كلمة دولة التي تتجمع فيها ينابيع جميع السلطات. يعيش المرء طوال حياته، وحتى مماته، دون أن يتساءل مرة واحدة عن مضمون الدولة، ذلك ما يقع بالفعل لأغلبية الناس وذلك أيضا ما يتمناه أصحاب السلطة، لكن لا يحتمل أن يحيى المرء دون أن تطرق سمعه كلمة دولة، بناء على هذا الإشكال الذي طرح العروي، يمكن لنا القول[1]: أن أثار وجود الدولة والسلطات السياسية، الذي يتميز بالوضوح والغموض في آن واحد، عديدا من التساؤلات التي أصبحت تشكل مركز التفكير والمعرفة في العالم الحديث. إن هناك طلبا عاما بهذا الصدد؛ إذ لا يمكن لأية فلسفة ولأي تفكير نظري حول المجتمع والواقع البشري أن يتجنب هذه التساؤلات. فحياة كل فرد منا ترتبط بـهذا المجهول الذي عرف بما فيه الكفاية والذي مازال يجهله الكثيرون أيضا؛ وكذا يشعر كل فرد منا بأن هذا المجهول يعنيه مباشرة... إن الفلسفات والبحوث العلمية التي تتجنب هذه الأسئلة المسماة "سياسية" تظل محط ريبة. إذ أنـها لا تجيب على مشاكل عصرنا الذي يتميز بتزايد قوة الدولة وتصاعد العنف وبارتباط الدولة بالمعرفي والاقتصادي واليومي والإعلامي…على الرغم من أن "هيغل" أولا، ثم "نيتشه"، مرورا بـ"ماركس" طرحوا مجموعة من الأسئلة القوية والواضحة حول هذه -المفاهيم وبينوا- مظاهرها المتعددة التي مازال البعض منها مقبولا إلى اليوم وتم تجاوز بعضها الآخر[2].
نعم، كانت توجد مجتمعات بدون دولة، مثلما كانت توجد مجتمعات بدون طبقات ومجتمعات بدون كتابة… كانت توجد مجتمعات ترفض الدولة وتتهرب منها. ومع ذلك، فإن مجمـل هذه المجتمعات قد انقرضت إن لم نقل كلها. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك عديد من المجتمعات التي تخضع للغزاة حتى وإن لم تكن توجد فيها بنيـة سياسية داخلية : إذ كانت السلطة القائمة على العنف (الجيش) ترسخ نفسهـا بفعل النصر. وليس صدفة أن يقترح أحد العارفين ب (العالم الثالث) "سمير أمين" إكمال أحد المفاهيم الماركسية، "نمط الإنتاج العشائري" (الشيوعية البدائية)، بمفهوم "نمط الإنتاج الخراجي". إذ كان يتعين على مجمل تلك المجتمعات التي كان يبدو أنـها تتمتع بالحرية أن تقـدم خراجا ثقيـلا إلى هذا الحد أو ذاك، يتم اقتطاعه من منتوج زراعي ضعيف عموما[3].
إن ملاحظة المرء تاريخيا للانبثاق والدعم العامين للدولة لا يلزمه بتصور مثل هذه الصيرورة كنتيجة لقصور حراري متزايد في المجتمعات البشرية. من المهم والمثمر جدا تبني أطروحة الانفجارات ـ الانبجاسات، أي الأطروحة القائلة بحدوث كوارث تولد الإمكانات، ثم تعقبها فترات تتجمد فيها المجتمعات المدروسة، وتتبلور فيها العلاقات وتتمأسس، ويتحقق فيها واحد من كل تلك الإمكانات وليس أكثر. إن المسار واسع جدا بين المجتمع بدون دولة الزعيم العسكري الذي يوطد سلطته بواسطة النصر من جهة، والدولة الحديثة من جهة أخرى. يمكن للمرء أن يكتب التاريخ أو يعيد كتابته بوضع هذه المسألة في المستوى الأول. لقد حاول "هيغل" القيام بذلك، حيث أعاد ربط تاريخ الدولة بتاريخ الفلسفة والحق والمعرفة عموما. فلا أحد في رأي "هيغل" يجهل كون هـذا التاريخ ليس شيئا آخر غير تاريخ الفكر الذي يخفي نفسه في الطبيعة والعقلانية والاجتماعية، وبالتالي ينشط الصيرورة لينتهي في الأخير بالتجسيد في الدولة الحديثة، ويستبدل "ماركس" و"إنجلز" هذه الأطروحة الفلسفيـة بأطروحة ملموسة أكثر من سابقتها: إن مستوى القوى الإنتاجية يحدد بعض "البنيات الفوقية" (الإيديولوجيات والمؤسسات)، ثم يفجرها عندما تتغير هذه القوى أو تتزايد. إذ تظهر بعض التناقضات في أحضان هذا المجتمع المدروس في شموليته والمحدد بعلاقته مع الطبيعة وبالتقنيات والمعارف وبتنظيم العمل الإنتاجي. والدولة تدخل في عداد هذه "البنيات الفوقية". إنـها تتغير وتتحول؛ إنـها ليست جوهر ومصدر وغاية العقلانية الاجتماعية كما نجدها عند "هيغل". بل على العكس من ذلك، إنها تتضمن العنف -عنف طبقة معينة على أخرى-. إنـها بدأت لكنها ستنتهـي بعد أن تبلغ أوجها، شأنـها شأن كل ما يحدث في سياق الصيرورة التاريخية[4].
لقد تم اليوم التعرف على ثغرات هذا التصور. فـ "ماركس" و"إنجلز" يكتفيان بتقييم شمولي للدولة: إنها بدأت وسوف تنتهي. إنـها تتغير، لكنها تفرض انخراطها مؤقتا "إجماعا" يبدو كإجماع دائم، في مجتمع تفترسه التناقضات. وذلك ما لا يعتبر نظرية عن هذه الدولة المحددة أو تلك، وإنما نظرية عن شروط نـهاية (ذبول) الدولة. إن مماثلة الملكية الخاصة (للأرض) بسيادة الدولة على تراب وطني معين تذهب بعيدا جدا، لكنها لا تقدم أية نظرية. وأخيرا، لم يأخذ "ماركس" و"إنجلز" في اعتبارهما شكلا من أشكال نشاط ليس له أية سمة أصلية ولا طبيعية، وإنـما ظهر بالضبط مع الدولـة: إنه إرادة الهيمنة (أو إرادة القوة). فهذا النشاط يقتضي دوافع وموارد اقتصادية؛ إنه يتضمنها في أحضانه، لكن لا يمكن اختزاله في هذه "القاعدة"، شأنه شأن أية "بنية فوقية" أخرى[5].
إن تاريخ الدولة، بلحظاته الحاسمة ومراحله وحلقاته وتحولاته، يتطابق تقريبا مع "أنماط الإنتاج" التي صنفها "ماركس": المدينة/ الدولة (العصر القديم)، الدولة الأسيوية (نمط الإنتاج الأسيوي)، الدولة الفيودالية والعـسكرية (التي عرفها العصر الوسيط والتي امتدت إلى يومنا هذا)، الدولة الوطنية، وأخيرا الدولة التي تتعهد بتسيير الاقتصاد وتطويره والتي سنطلق عليها في مكان لاحق عبارة "نمط الإنتاج الدولاتي". فهذا المفهوم الأخير لا يوجد ولا يمكن أن يوجد لدى الماركسيين الكلاسيكيين، بما أنه يتعلق بتشكيلة حديثة العهد مازالت حبلى بالمفاجآت[6].
إن كل سلطة سياسية، مرتبطة بـهذا الشكل التاريخي من الدولة أو ذاك، قد ولدت مجموعة من التمثلات بكل ما تحمله الكلمة من معنى: احتفالات، أعياد، إخراج ومسرحية، صور، أفكار وإيديولوجيا، تصـورات للعالم وللمجتمع، إلخ. لقد كان البعض من هذه التمثلات يستعمل استعمالا شعبيا من أجل الإبقاء على المسودين تحت الهيمنة؛ وكان بعضها يستعمل استعمالا أكثر ضيقا: إذ أنه كان مخصصا للمهيمنين، يمجدهم باعتبارهم مرتبطين بالسلطة وأدواتها. وأخيرا، لم يكن يستعمل الجزء المتبقي منها إلا بشكل داخلي خاص بالأسياد، باعتباره إجراءات ضرورية للحفاظ على وعيهم بالسيادة وتمريره إلى خلفهم. وسيحدث أن تتطور هذه التمثلات وتتحول إلى منظومات رمزية واسعة وإلى مجموعة من الأساطير وإلى عمليات أسطرة كبرى. يتعين على التحليل النقدي للسلطة (السياسية) أن يعترف بـهذا المفعول المفارق: لقد كانت الأنظمة الاستبدادية أنظمة شعبية، وكان المستبدون الذين كانوا يظهرون أكثر قساوة محط تملق وقبول ومحبة بفعل العودة الضرورية إلى التاريخ. ولا يتم الاعتراف بسماتـهم المكروهة إلا بعد سقوطهم أو موتـهم؛ طبعا، كان يوجد أفراد يكنون كراهية للمستبدين خلال حياتـهم وفترة مجدهم؛ لكن مفعول المحبة: الذي يرتبط ارتباطا غريبا بالهيمنة، وبالتالي يبدو أنه ملازم لعملية استلاب المهيمن عليهم بالتسلط واستلاب المشاركين في العنف الاستبدادي. كان يهيمن نفسه على الكراهية. هكذا كان الأمر بالنسبة لـ"ستالين". وهكذا الشأن بالنسبة لـ"هتلر" إلى حدود هزيمته.
ففي العالم الحديث، حلت صورة الإنسان العبقري و" صنميته " (صورة الأمة، العرق، الطبقـة) محل الصورة الدينية للنـبي أو صورة التجسيد الإلهي على الأرض[7].
يمكن للتحليل أن يساعدنا على إجراء تمييز بين الأساطير العفوية للسلطة والميثولوجيات القائمة القريبة من الإيديولوجيا، لكنها تفوق التجريدات الإيديولوجية قوة. ومع ذلك يصعب التفريق بين هذين البعدين للصنمية السياسية. هل تتمثل الميثولوجيا العفوية في صورة الأمير صاحب الحق الإلهي؟ نعم، لكنها صورة مهذبة بمهارة. إن صورة الشخص المفضل من قبل الآلهة أو صورة رسول الله إلى الأرض تنبثق تلقائيا من مثل ذلك الإيمان الديني؛ لكنها تـهيئ نفسها وتنظمها. لم تدع الملكية في فرنسا "الحق الإلهي" إلا أثناء عملية بناء جهاز عسكري وإداري وقانوني متين، وخصوصا بعد إرساء البيروقراطية المتمركزة في شكلها الجيد والمستحق. فعندما كان ملك فرنسا يدافع بضراوة على سلطته ضد الفيوداليين الكبار وضـد المدن الكبرى (ومن بينها باريس) في آن واحد، فإنه كان يبدو بوجه قانوني دنيوي وليس بوجه سماوي[8].
إن السلطة التي تريد أن تكون سلطة مطلقة وكذا السلطة المطلقة نفسها (ظاهريا أكثر منه واقعيا) تميلان إلى أن تقدما عن ذاتيهما صورة فوق طبيعة. والحال أن التمثل الأسطوري لـ "السلطة".. يوسع من هذه الصورة الأسطورية. فهذه الأخيرة لم تنقرض. إنـها تنجح حتى في أن تقدم نفسها بمظهر علمي بالاعتماد على مثل هذا المفهـوم الكاذب -الذي يقترب في الحقيقة من الاستعارة ومن نوعية مستترة أكثر مـما يقترب من فكرة واضحة- المتمثل في "الكاريزم" و"الظواهر الكاريزمية" المزعومة، "ماكس فيبر": تنطلق هذه الإيديولوجيا من جهل بالعنصر السياسي، أي بالشروط والظروف التاريخية وبسلسلات الوقائع والقرارات التي مكنت "الزعيم الكاريزمي" من امتلاك السلطة السياسية. وتجهل هذه الإيديولوجيا أيضا الاستعمال المعقلا للعنف، وللخطاب السياسي وللغة الملائمة. فهذه الأطروحة الشهيرة أكثر مما ينبغي تخلط بين مفعـول السلطة السياسية وكيفية الوصول إليها النفوذ، "عبادة الشخصية" من جهة، وأسباب هذا الوصول وأصوله وسيرورته من جهة أخرى[9].
اكتست الصورة المتجانسة للسلطة مؤخرا أشكالا أصلية. إذ اكتشف "المثقفون" والفلاسفة السلطة السياسية وأهميتها (وغالبا ما تم ذلك بعد 1968). إن احتقارهم لــ "السياسي" جعلهم لا يفكرون سوى في السلطة في ذاتـها. إنـها تفتنهم؛ إنـهم يريدون أن يمسكوا بـها على المستوى المفهومي، سواء من أجل محاربتها أو من أجل خدمتها. يحدث لـهم أن يخدموا السلطة السياسية بالمعرفة، ويقدمون لها هذه الخدمة على شكل أوامر عموما، ونادراً ما يكافئون عليها، وغالبا ما تكون سببا في إذلالهم: تقاريـر(يذهب معظمها إلى أدراج الوزارات)، تحاليل، دراسات يتأرجح مفكرو السلطة الخالصة بين معرفة خالصة ومعرفة نقدية ومعرفة خاضعة. إنـهم ينتهون بأن يروا السلطة في كل مكان. إنـهم يستخرجون منهـا بعض الاستفهامات. وبالتالي لن يكون للسلطة أي أصل تاريخي محدد، ولا أية علة اقتصادية أو سياسية ولا أي منبع أو مورد إيديولوجي. سيوجد إذن عدد لا يحصى من السلطات المتناثرة حتى في أركان المجتمع وأوكاره، سلطات تجمعها السلطة وتكثفها. ويتم التعرف على علاقات التبعية في الأسرة والجنس والحياة الجنسية واللغة والتعليم والملكية والغنى طبعا… وباختصار، إن تلك العلاقات تلقح الحياة الاجتماعية (وتسجنها بداخلها وتسمم أساسها). ليس للسلطة المنتشرة مناص من أن تجتمع في السلطة، منتقلة على طريقتها الخاصة من النسبي إلى المطلق. كيف يمكن التخلص من السلطة بما أن الخطاب (كلام أو كتابة) لا يكون أبدا إلا خطاب سلطة قائما على سلطة الخطاب؟ هكذا فإن السلط المتناثرة تؤول إلى السلطة المطلقة، وتؤول هذه الأخيرة إلى السلطات المتناثرة المتعددة[10].
إنـها أطروحة ساحرة. لماذا؟ لأن لكل واحد منا حصته من السلطة (ويمكن أن تمارس هذه السلطة على الحيوان، كالكلب أو القـط!)، وبالتالي فهو يضطلع ببعض المسؤوليات داخل السلطة، ويمكن لأي منـا أن يستغني عنها أو أن يقويها ؛ الشيء الذي يقدم تفسيرا تقريظيا للديمقراطية ولبعض الأوهام الديمقراطية (الليبيرالية أو الليبيرالية الجديدة). بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه الأطروحة أن تقدم نفسها كأطروحة مصادق عليها ومتحقق منها بواسطة التماهي مع السيد، بل ومع الجلاد، وهـو تماهي تـم التحقق منـه كثيرا من المرات؛ هكذا يمتد الجزء الصغير من السلطة ليشمل السلطة المطلقة! ومع ذلك، مازال هذا الموقف المنتشر جدا اليوم يـجانب السياسة "الواقعية"، بما في ذلك الفعل والإيديولوجيا. لا وجود في الحقيقـة وفي الواقع لسلطـة بالمعنى الميتافيزيقي، وإنما توجد سلط سياسية محددة، وبالتالي محدودة. لكن بماذا تتحدد تلك السلطة ومن يحددها؟ إنـها الأعراف والقـوانين، والدساتير والمؤسسات. وذلك هو ما يحول دون القفز من النسبي إلى المطلق. لا توجد السلطة السياسية إلا في الدولة وبواسطتهـا، ولا توجد الدولة بدورها إلا بواسطة رجال الدولة الذين يمارسـون جزءا من السلط. فالعلاقة الموجودة بين السلط القائمة والسلطة السياسية هي أكثر دقة مما تتصوره الطروحات الآنفة الذكر. إن الأمر لا يتعلق بمجرد تجسيد أو تحقيق بعض التجريدات، الدولة أو القانون أو الحق. إن الدولة كيان مجرد بالفعل، لكنها لا تقل واقعية، والكشف عن واقعيتها النوعية يتطلب تحليلا طويلا وصعبا[11].
هل يتعين علينا إذن أن نكيف ونتبنى بعد ذلك الأطروحة التقليدية التـي لا توجد بمقتضاها سوى سلط محددة جدا ومنفصلة عن بعضها البعض ومحدودة نظرا لأنها تحد بعضها البعض تبادليا؟ هل يجب علينا أيضـا أن نقبل وجود سلط جديدة كالسلطة النقابية أو تدخل الهيئات التي تـهدف إلى التجديد، كالتخطيط مثلا؟ إن مثل هذا الموقف يخاطر بأن يقنع بعض الظواهر التي تعتبر البيروقراطية أبسط مثال عنها. وينقطع هذا الموقف إلى تخليد لعب التنافس والتنـاحرات بين السلط، وهـي تناحرات تعوق الفعالية، لكنها تحول دون صعود أية قوة كليانية. وأخيرا، يخفي هـذا التنظير ما يحدث فجأة في هذا الميدان: استبدال الفصل القديم بين السلـط على طريقة "مونتسكيو"؛ بتقسيم العمل السياسي بين التكنوقراطيين والجيش ورجال السياسة المحترفين. فهذه البنية السياسية المعاصرة تفترض وجود جماعات نشيطة، مستسلمة لصراع حاد من أجل الـهيمنة، في أحضان سلطة تنـزع نحو الموحد الذي لا يشتمل على التضمينات التي تشتمل عليها كلمة "كلياني"[12]. إن شروط السلطة السياسية تشتمل على الحدود. إن محافظة السلطة السياسية على نفسها رهين بما يلي :
أ ـ وجود موارد من البشر والسلاح والمنتوجات المتنوعة والمال (من الخراج إلى الضريبة)؛
ب ـ وجود مجتمع منظم يعيد إنتاج العلاقات التي تكونه (من الأعراف إلى القانون)؛
ج ـ وبالتالي وجود ضوابط وقيم وإيديولوجيا (أو إيديولوجيات).
مازال من الممكن ممارسة العنف "الخالص" بواسطة النهب وباستخدام المرتزقة. لكن هذا العنف لا يستمر طويلا. إذ أن السلطة تنهار. فمحافظة هذه السلطة على استمرارها رهين بوجود قاعدة معينة (وهذا ما يعنيه بالضبط هذا المفهوم الذي تكاثرت حوله النقاشات والسجالات العقيمة). ومع ذلك، يمكن للسلطة السياسية دوما أن تخرق الحدود التي وضعتها "قاعدتـها" نفسها. لكن لـهذا الخرق مخاطره وتبعاته. فالسلطة السياسية تحاول خرق تلك الحدود بواسطة الحرب التي تدخل في عداد الإمكانات المحدودة والمحددة بواسطة الشروط[13].
يكفي المرء أن يتفحص للحظة قصيرة هذه اللوحة التي تلخص تاريخ الدولة والسلطة السياسية حتى يدرك التفاوت الموجـود بين الأشكال السياسية والشروط الاقتصادية- الاجتماعية. نفهم جيدا كيف سمحت العلاقات الاجتماعية في النظام الفيودالي والأرستقراطي بتكون نـوع من الدولة، ننعته هنا بالدولة "الفيودالية- العسكرية". لكن من الصعب جدا أن نفهـم كيف ولماذا استمرت هذه الدولة إلى الآن وتركـت بصمات واضحة. هكذا الشأن بالنسبة للدولة المجرية والدولة القيصرية، بينما أنهت ثـورة 1789 النظام القديم (الفيودالي ـ العسكري) في فرنسا منذ مائتي سنة. إن التفاوت يحدد حقل التاريخ والفكر التاريخي بالنسبة للعنصر الاقتصـادي. إن كل سلطة سياسية تحاول تنصيب نفسها كسلطة مطلقة بما أنـها معرضة للموت بفعل الحروب. لكنها لا تفلح في تنصيب نفسها كذلك على الدوام. فالجانب المأساوي للدولة وللسلطة يشكل أيضا جزءا من التاريخ[14].
يستشف مما سبق، خاصية أساسية؛ لا شك أنـها تميز كتابات الأستاذ العروي جميعها، وهي صدق المعاناة التي هي الشرط الضروري لكل فلسفة وكل تفكير حق، فلسنا هنا إطلاقا أمام عقـل مجـادل، أمام عقلية مناظرة كما يقول الكتاب، وسيكون من العبث، وربـما من عدم النـزاهة العلمية، معاملة هذا الكتاب بعقلية يرفضها هو نفسه وتصيد لحظات الضعف أو مواقع الخطأ. ذلك أن صاحب الكتاب يعفينا هو نفسه من هذه المهمة فهو ما يفتأ خلال الكتاب كله يبدي التحفظ تلو الآخر، منبها القارئ إلى أن الهدف ليس هو التأكد من الأحكـام الجزئية وإنما بلورة موقف يدعو إليه العمل ولا يستلزمه النظر فحسـب. ومن هذه الزاوية ينفصل الأستاذ العروي عن عقلية الفيلسوف بالمعنى التقليدي، أي عقلية التأمل والنظر من أجل النظر.
لا يعني ذلك أن المؤلف يدعونا إلى التخلي عن كل روح انتقادية بل إنه ما ينفك يعطينا المثال، خلال كتابه عن ضرورة التحلي بروح التشكك والتساؤل. ولا بأس هنا، أن نعود إلى تساؤل كنا قد طرحناه سابقا يتعلق بالعلاقة بين الدولة والحرية الذي يضعه الأستاذ العروي بين الدولة التقليدية والدولة الحديثة، هذه العلاقة التي يعتبرها تمييز بين الحداثة والتقليد.
خاتمـــــــة :
يقول الأستاذ العروي: يتأصل عقل الفعل في نقض عقل الاسم، ولا يكون الإصلاح إصلاحا إنشائيا إلا في الإطار الأول وخارج الإطار الثاني. لكن يمكن أن نتساءل، ألا يتم نقض عقل الفعل إلا بنقد عقل الاسم اعتبارا بأن الاسم واقع بشري، بل اعتبارا بأن الواقع البشري هو دوما واقع مسمى؟ أو ليس الكتاب الذي بين أيدينا جزءا من هذا النقـد؛ نقد واقع الدولة في عالمنا العربي الإسلامي عامة والمغربي خاصة، حيث غياب كل من نظرية الدولة، وغياب الحرية؟![15]
حين يكون لدينا واقعان، واحد رفيع وعقلاني ومرتب وأنيق و"موضوعي" و"حداثي" و"كوني"، وواحد وضيع وفوضوي ومختلط وحسي ومتناثر و"واقعي" و"محلي"، سيكون لدينا أيضا نوعان من الناس، بعضهم لهم السلطة والوجاهة والمعرفة، وآخرون عوام أميون، سبقت الإشارة إلى ما قاله العروي عن أن من شأن استعارة عنصر بنيوي من مجتمع آخر أن تؤدي إلى ارتسام مجموع بنية هذا المجتمع الآخر في أفق المجتمع المستعير. وسياق تفكيره ككل يوحي أن العنصر المقصود ثقافي وفكري. الإيديولوجية..، ص 28. يضيف: يوجد حقا في صلب كل دعوة [إيديولوجية] مدلول طبقي، لكنه غير ناشئ عندنا. بل يمكن القول إن ذلك المدلول المستوحى من الخارج هو الذي يساع المجتمع العربي، دون أن يكون وحده العامل الأول والفعال، على أن يتمايز وتتبلور فيه الطبقات، ص 61. أريد القول إن تشكل مجتمعاتنا المعاصرة من طابقين، نخبوي ممتاز وأكثري مفقر ومحتقر هو التمايز الطبقي الذي يرتسم في أفق مجتمعاتنا بفعل تحديث مشدود إلى مطابقة "المستقبل الماضي" لأوروبا، وعقلنة وعي النخبة، وليس بعدالة أكبر للسكان وحريات وأكبر وتعليم أفضل وتحكم أوسع بشروط الحياة الفعلية. لا ينبغي السماح لهم بالتصويت في انتخابات حرة، على ما أفتى قبل سنوات مثقف سوري مر بمدرسة "ياسين الحافظ"[16].
إن لم يكن سحق الأميين مرغوبا، فإنه لا مجال للاحتجاج ضده على أرضية "الواقع الموضوعي" و"المستقبل الماضي"! ومعلوم أنه لطالما كانت التاريخانية ضئيلة الحساسية حيال المعاناة والألم الإنسانيين. "ماركس" نفسه شاهد على ذلك في مواقفه من الاستعمار (البريطاني للهند والفرنسي للجزائر)، ومن تطور الرأسمالية في أوروبا ذاتها، في "البيان الشيوعي"، وليس في "الرأسمال"[17].
الكونية هي الإيديولوجية التي تموه تكون قطاع امتيازي مفرط في امتيازيته في الأعلى، وقطاع واسع من العموم المفقرين والمحتقرين. فرص العموم في التحضر مرهونة بتسليمهم بهيمنة الكونيين، أما تمردهم فمؤشر قاطع على ظلامية وقدامة متأصلتين. ففي السنوات المنقضية من هذا القرن ظهر بوضوح بعد تمييزي وتسلطي لهذا الموقف، نخبوية يمينية متقززة من الجمهور العام، ورثت نخبوية "لينينية" بصيغة "الطليعة الثورية"، لكنها لم تعد تبالي حتى بـ"نقل الوعي" لهذا الجمهور الغافل. تكتفي بتقريعه ونصب أسوار فاصلة بينها وبينه، وتجد نفسها على قرب من مراتب السلطة العليا في بلداننا، ولا تخاطب غيرها[18]. وليس ظاهرا كيف لمن يضيع الواقع أن يكسب تغييره. وحين يجري إعدام الحاضر، فإن المستقبل هو ما نحرمه من الحياة. لقد انقضى نحو خمسين عاما منذ زكى العروي خفض قيمة الحاضر. خلالها، و"الوقت محسوب لدينا"، ازداد هذا هشاشة، ولم يكف المستقبل المنشود عن الابتعاد. في المحصلة، طورنا موقفا ظلاميا بدوافع نيرة. فكان أن حصلنا على عدد كبير من السياسيين السيئين (كلنا)، بدل عدد أقل (بدئيا، لكنه متزايد) من مثقفين جيدين وسياسيين جيدين. أقول السياسيين السيئين لأن التاريخانية تجعل المثقفين جميعا سياسيين، بل تجعل السياسة مفهومة كتقدم أو تدارك للتأخر هي الثقافة الوحيدة. كل شيء يغدو نضالا وتعبئة[19] - صلابة "عزائم الثوريين" هي ما يسوغ به العروي التأويل التاريخاني لـ"ماركس" ويرفض التأويل الليبرالي المحافظ - وعملا سياسيا، وكل معرفة إيديولوجية، ولا يتصور التغير إلا كـحل أو خلاص.
تضع تاريخانية العروي الواقع، واقع العرب، في "ما يستشرفونه من أحوال المستقبل"، أي في "المستقبل الماضي" للغرب، حسب قول مؤلف "الإيديولوجية العربية المعاصرة"، وليس في "ما يعيشونه في الحاضر"[20]. ولا بأس أن لا نتمايز عن الأوربيين بغير "نبرتنا"، فمن شأن الكبرياء الثقافية أن تديم "شتاءنا الطويل"[21]، شتاء "التأخر التاريخي".
التأخر التاريخي لدى العروي هو أساسا وعي متأخر. ليس بحال واقعا كثرويا معقدا ومتعدد المستويات؛ إنه أشبه بعالم وهمي، يجد حقيقته في واقع حقيقي، هو ذلك المستقبل المكتمل في أوروبا، ما سماه عزيز العظمة منتقدا العروي "سقف التاريخ"[22]. وفي وهمية هذا العالم ما يقوض من الأساس إمكانية معرفته، وما يفسر تحفظ العروي الصريح على المعرفة الوضعانية والسوسيولوجيا[23].
لكن مقابل واقع غير مكتمل أو ناقص، وبالتفاعل مع واقع ناقص، هل تتكون غير عقول ناقصة؟ هذه مفارقة تنتهي إليها تاريخانية العروي. تصبو إلى "الوعي المطابق" أو "العقلانية"، لكنها تنكر أو تقلل من شأن فعل تعقل الواقع المعاش، أو "ما نعيش من أحوال الحاضر" التي يتشكل تفكيرنا وتترقى مداركنا عبر الاشتباك معها. المطابقة عند العروي ليست شأنا معرفيا، نحيط عبره بشبكة الأوضاع الراهنة التي نعيشها، بل هي شأن عملي، مطابقة لحاجات "المجتمع العربي". والوعي التاريخاني سرعان ما يتخثر في مذهب أو دعوة حداثية.
غير أن العروي يصرف هذه المفارقة بيسر. يقترح أن نعرف واقع الغرب بوصفه واقعنا "الموضوعي" (ومستقبلنا المرغوب)، مقابل الواقع "الواقعي"[24]، حاضرنا هذا الذي لا قوام له. حيث يقول: هذا الواقع الذي هو موضوعي رغم أنه غير حاضر، ليس سوى عبارة أخرى عن مفهوم المستقبل-الماضي. وفي موضع آخر، نجده يقول: الموضوعي هو ما يصبح مطابقا للواقع حين تبلغ الدولة القومية غايتها من التصنيع. ثم يضيف: الموضوع في نظر العرب المحدثين أصح وأمتن من الواقع[25]. وهذا ما يفترض أن "الماركسية الموضوعية" تتيحه[26].
وتجنبا لمعرفة ناقصة لواقع واقعي ناقص يقترح العروي أن لا نقبل إلا المعرفة الناجزة التي، خلافا لكل معرفة غيرها، وتحت مسمى "العقل الكوني"، لها الأولوية على البنية الاجتماعية، تتحدد هذه بها بدل العكس[27]، يقول: في وضع المجتمع العربي، ولكي يكون كلامنا مطابقا لموضوعه، ألا يجب قلب العلاقة المعهودة بين المجتمع والفكر، بتقديم هذا على ذاك؟ تقضي العادة في الغرب بأن نتدرج من الوضع الاجتماعي إلى الإنتاج الفكري، لكن إذا قبلنا أن مفهوم المستقبل-الماضي يعبر عن تجربة تاريخية فعلية يعيشها عرب اليوم، أفلا يعني ذلك بالضبط أن الأدلوجة (الدعوة) سابقة، عمليا وإجرائيا، تاريخيا ومنطقيا، على المجتمع؟، وهو ما يعني أن ننطلق من الماركسية الموضوعية في مقاربة أوضاعنا، فهذا يساعد على تشكل بنية اجتماعية رأسمالية، أنسب للتحليل الماركسي[28].
من بين الاستنتاجات المهمة التي نص عليها العروي في "تكون الدولة" القول ب: نستنتج من الملاحظات السابقة أن الدولة من بداية التاريخ تحمل معها قدرا من العقلانية، إن قليلا أو كثيرا. وهذا شيء طبيعي، ما دامت الدولة تعني التنظيم؛ والتنظيم يعني اكتشاف طريقة أسهل وأقرب لتحقيق هدف ما. الإنسان عاقل، ويستعمل العقل إذا توفرت الظروف، لا محل للاستغراب إذا لاحظنا شيئا من العقلنة في التنظيمات السياسية القديمة. بيد أنها عقلنة جزئية ومهددة: تظهر في عهدتها ثم تختفي، تؤثر في مجال ما، ولا تمس مجالات مجاورة، ثم تبقى في كل الأحوال تحت رحمة الهوى الفردي[29].
هوامش:
[1] العروي، الدولة، ص 5.
[2] لوفيفر، نفسه.
[3] لوفيفر، نفسه.
[4] لوفيفر، نفسه.
[5] لوفيفر، نفسه.
[6] لوفيفر، نفسه.
[7] لوفيفر، نفسه.
[8] لوفيفر، نفسه.
[9] لوفيفر، نفسه.
[10] لوفيفر، نفسه.
[11] لوفيفر، نفسه.
[12] لوفيفر، نفسه.
[13] لوفيفر، نفسه.
[14] لوفيفر، نفسه.
[15] عبد السلام بنعبد العالي، نقد العقل العربي الإسلامي: حول كتاب "مفهوم العقل" لعبد الله العروي، شوهد في: 13/3/2020، في https://www.aljabriabed.net/
[16] جورج طرابيشي، في ثقافة الديمقراطية، ط 1، (بيروت: دار الطليعة، 1998)، ص 22.
[17] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ط 5، (بيروت: المركز اثقافي العربي، 2012)، ص 373.
[18] الحاج صالح، نفسه.
[19] عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ط 3، ( بيروت: دار الحقيقة، 1980 )، ص 172.
[20] العروي، الإيديولوجية، ص 94.
[21] العروي، العرب والفكر، ص 201–202
[22] عزيز العظمة، التراث بين السلطان والتاريخ، ط 2، ( بيروت: دار الطليعة، 1990 )، ص 105–127.
[23] العروي، الإيديولوجية، ص 167.
[24] العروي، الإيديولوجية ، ص 94.
[25] العروي، الإيديولوجية ، ص 168.
[26] العروي، الإيديولوجية ، ص 169–188.
[27] العروي، الإيديولوجية ، ص 203.
[28] الحاج صالح، نفسه.
[29] العروي، الدولة، ص 76.