عبد اللطيف شهبون.. شخصية من بهاء وقلم من تفرد

عبد اللطيف شهبون.. شخصية من بهاء وقلم من تفرد

1 - رجل الامتدادات:

من أرومة شفشاونية عريقة تعاقب إلينا عبد اللطيف شهبون.

صان جذوره المتأصلة في الثرى الشاوني.

بيد أنه ما تسيج بامتداده.

ما تمترس خلف منابت الخطى الأولى.

أما مقايضة القريب بالبعيد، فلم يقترفها قط.

هكذا لم يختصر طنجة في مجرد محطة في مسيرة. ولم يعلنها جغرافية مؤقتة يتلألأ المغيب عند أطراف حضورها.

إنما صيرها -وصار بها ومعها- فضاء جاذبا:

لا يؤوب منه إلا إليه.

فيه يمتد.

ومنه يتوالد.

هو إذ يطوف ما يطوف في تيه الحنين، فإنه سريعا ما يفيء إلى فضائه. فيتبدى الحنين أشبه بحلم الكرى.

وهو إذ ينحسر مرة، فإنه لا يسلس للغياب قياده. مثلما لا يدع للماضي أن يحتسي منه الحاضر.

في شخصه اختزل عبد اللطيف شهبون:

ما انقضى.

ما هو صائر.

ما هو قيد الانبثاق.

- شفشاون/ المهد.

- تطوان/ الصبا.

- طنجة/ الامتداد.

شاي الله أرجال الشمال..!!

2 - شخصية تجب ما قبلها:

ما من أحد يداني عبد اللطيف شهبون في قدرته الفذة على تحويل الكلام الشفوي إلى كلام مكتوب.

هو ينتمي إلى فصيلة نادرة من المحدثين الراسخين في أوج العبارة، الذين يرفعون حديثهم العابر إلى مقام المنتهي صياغة.

فلا ندري هل الواحد منهم يتحدث أم أنه يكتب..؟!

يأتينا الكلام فنواجه عسرا في استخلاص التعبير الذي نبغي ونشتهي.

ويأتيه الكلام فيصنع منه سحرا نافذا، ويسلكه في عقد جواهر.

هذا رجل يجب ما قبله.

تجلس إليه فيسارع قلبك إلى الألماني غوته ويشاركه صرخته على لسان فاوست:

- قف أيها الزمن.. ما أروعك!

3 - على ظمأ دائم.. هو:

يتعاطى عبد اللطيف شهبون الصوفية من داخل نفسه لا من خارجها.

بالمعنى الذي يفيد أنه يدرسها ويحياها في آن.

من هنا الصفاء الأجلى الذي يدثر شخصيته.

من هنا الإشراق الذي يلازم تعبيره.

من هنا -أيضا- أناقة إحساسه المتواشجة بدماثة خصال هي نادرة للغاية.

تفرغ أبو بسام لمقاربة "الفتوحات المكية" بروح المريد، في توقه واندفاعه، بحثا عن:

أ - المتحول الواقي من الثابت.

ب - هروبا من زحام الخارج إلى شسع الذات.

ج - مجاوزة هاوية الوضوح إلى وجع الغموض المشتهى.

هكذا حقق، هذا الشفشاوني التطواني الطنجوي معا، من صنوف الوصل المؤثل ما قصر دونه الآخرون.

هكذا تكبد فتنة السؤال تلو السؤال، دون أن يجزى بعناء الجواب..!!

هكذا ترك على ظمأ.. على ظمأ..!!

من صوفية خلق عبد اللطيف شهبون.

وإلى صوفية يؤول.

4 - واضح التفرد:

لم يقيض لي أن أقابل الدكتور عبد اللطيف شهبون إلا حين التحقت بأسرة تحرير أسبوعية "الشمال".حيث غدا السبت من كل أسبوع فسحة نتبوأ في شساعتها البوح بمضمرات الذات، ونتقاسم شذرات حديث يمتد بنا وفينا ويتشعب.

لسنوات طوال، لم أعرف عبد اللطيف إلا بوصفه كاتبا:

أقمت في كتاباته وكبرت.

اختلفت واتفقت.

أقدمت وأحجمت.

وكلما انفردت بآرائه، آليت على نفسي أن لا أكف عن القناعة بأنه قلم كبير واضح التفرد.

كثيرون خرجت من لقائهم وقد تخليت عن الإعجاب بهم.

أما عبد اللطيف شهبون فلا أذكر أني غادرت جلسته يوما إلا وأنا:

- مدجج بغزير لطفه.

- ممتلئ بجميل مودته.

- أراكم الإعجاب على الإعجاب.

ثمة شيء يحس ولا يدرك في شخصية هذا الرجل:

- يمسك بتلابيب حواسي.

- يجعلني في تماس مستمر مع فصاحة حضوره.

- يذكرني بنقاء الغفاري، وكبرياء المتنبي معا.

5 - حي على الشعر:

منذ زمن الصبا في تطوان، تعاطى عبد اللطيف القصيد مشتعلا بنفس جبراني رومانطيقي، يستوحي الذات، ويستنطق شتى مكنوناتها وتبدلاتها.

امتشاقه للقصيد له حكاية تصرخ روعة. لن أمنع إعجابي من سردها:

في أوج يفاعته -ذات تجل- سيتلقى التلميذ الوسيم عبد اللطيف رسالة ملتهبة من فتاة لم يلفت مشاعرها غيره. وما هي إلا أن تشرب حبر سطورها، التي ألهبت حمرة قلبه، حتى سار به الخفقان حثيثا شطر القريض، فأجهش ملء التياع عواطفه اليانعة:

- حي على الشعر..!!

تلكأ عبد اللطيف كثيرا في نشر ما راكمه من قصيد.

أغراه بذلك تواضعه الجم.

وحين قيض لديوانه: "كما لو رآني"أن يغادر محبسه إلى حرية التداول فالإعجاب، عرف مدمنو الكلم، هنا وهناك، أي شاعر هو شهبون، وأي مبدع.

6 - سيد الأمل:

إذا كانت "الحياة تعب كلها"، برأي المعري، فإن عبد اللطيف لم يكن قط "ابنا لليأس"، كما قال ابن بابك.

حتى في أصعب الظروف، لا يتخلى الرجل عن:

- روحه المرحة.

- طبيعته الموارة بالبهاء.

- قدرته على تفجير الضحكات.

يحدث أن يترجل عن الأمل، لكنه سرعان ما يستدرك ما فاتمن تفاؤله، ليمتطي صهوة الفرح مجددا.

ويشرع في منازلة العتمات بإشعال شموخ الضحك الطفولي.

أجل:

عبد اللطيف شهبون، لمن لا يعرفه:

- رجل تمشي البهجة بمحاذاته.

- طفل ضاحك أبدا.

- ينظر خلفه قليلا، ويستشرف الأمام كثيرا.

وفي الحالتين:

يظل سيد الأمل.

شاي الله السي شهبون..!!

7 - ذكرك عطر لنا:

عبد اللطيف شهبون، يا من ذكرك عطر لنا:

أعرف أنك الآن، وأنت تقرأ نص هذا البورتري الذي هو منك وإليك، تستشعر خجلا من كلماتي.

وأدرك كم تود -صادقا- أن تبقى متفيئا صمت الظلال.

ولكن..

- ما السبيل إلى ذلك، وأنت فعلا شخصية تستحق توسيعها مديحا..؟!

- وكيف يتجنب مثلي الحديث عنك، وأنت ملء الأسماع، وفي صدارة كل الأحاديث..؟!

إذن:

انس تواضعك قليلا.

ودعني أقول سرا وعلانية:

شاي الله السي عبد اللطيف..!!