الحج تجربة حية فريدة في حياة المسلم يمكن فيها تلمس ماهو آت من استعداد للحظة فراق هذه الدار إلى دار القرار، وما يتبع ذلك من مشاهد ومواقف تمتد من حياة البرزخ بالقبور، فيوم المحشر حيث الحساب والجزاء؛ ثم الحياة الأبدية في جنة كتبها الله لعبادة الصالحين، أو نار أعدها الله لمن حاد عن نهجه واتبع هواه، ولا يظلم ربك أحدا. وليس غريبا أن تفتتح سورة الحج بمشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة...
لذلك على الحاج كما على المسلم عامة أن يبحث عن المعاني التي تزكي في نفسه الميل للطاعات، وينظر في أيها أقرب إلى تحقق المتعة: "فألذ شيء هوى وافق شرعا" كما في الأثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكلما تنبه المسلم إلى الطاعات التي توافق ميله واجتهد فيها، وسعى للمشاركة في غيرها من الطاعات حالفه التوفيق، وضمن بإذن الله القدرة على المداومة؛ فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، طبعا هذا الكلام لا يخص فرائض العين التي تلزم كل مسلم على حدة وفق شروطها وضوابطها...
والحج مبني على التيسير، وقد لوحظ فيه أكثر من غيره من العبادات جانب التيسير ورفع الحرج، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان إذا سئل عن شيء قدم أو أخر، قال:" افعل ولا حرج". المهم الحفاظ على الأركان والاتيان بها في أيام الحج المعلومات، ذلك أن مقاصد الحج تتجاوز مجرد القيام بالاحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة؛ نعم هذه هي أركان البناء التي لا يتم الحج إلا بها؛ لكن المستهدف فضلا عنها تلك الحياة التي يحياها المرء متنقلا بين المشاعر، ملبيا ومصليا وذاكرا وداعيا، تاركا للرفث والفسوق والجدال...
في الحج يجتمع المسلمون من كل بقاع الأرض في حيز مكاني محدد، و زماني معلوم، فيتلاقون على اختلاف عاداتهم وأعرافهم في المأكل والمشرب، والملبس، والكلام وطريقة الخطاب، لغاتهم متعددة، وألوانهم متنوعة؛ كل ذلك من آيات الله تعالى في خلقه؛ وهؤلاء لا يكاد يجمع بينهم سوى توحيد الخالق سبحانه وتعالى؛ جاؤوا من كل فج عميق، رجالا وعلى كل ضامر؛ يتلمسون خطى الأنبياء الذين حجوا البيت العتيق، كلهم رغبة وحرص على العودة بحج مبرور، وقد غفر لهم ما تقدم من ذنوبهم؛ ففي عرفة يوم الحج الأكبر يشهد الله تعالى ملائكته أنه جل وعلا قد غفر لعباده الذين وفدوا عليه ملبين، موحدين، شاكرين لأنعم الله التي ينعمون بها...