محمد بوبكري: يا أيها الكافرون بالوطن  

محمد بوبكري: يا أيها الكافرون بالوطن   محمد بوبكري
 عندما اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بشرعية سيادة المغرب على صحرائه، أعلن بعض شيوخ جماعات الإسلام التكفيري موقفًا مناهضا لاتفاقية الرباط بين المغرب والولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل، بذريعة أن المغرب حصل على هذا الاعتراف مقابل تنازله عن القضية الفلسطينية. ورغم كل الالتزامات التي قدمها المغرب، حيث أعلن رسميا أنه سيبقى دوما إلى جانب الفلسطينيين حتى إقامة دولتهم المستقلة، فإن هؤلاء الشيوخ انساقوا وراء حملة التشهير ضد المغرب التي دبرها جنرالات الجزائر وحكام تركيا وإيران. 
إنني أعرف جيدا أن النصوص الأيديولوجية المرجعية لشيوخ جماعات الإسلام السياسي التكفيري لا تعترف بمفهوم "الوطن،" لأنه يتعارض مع مفهوم "الخلافة الإسلامية" الذي هو مفهوم توسعي بامتياز، لأنه يروم في جوهره إلى التحكم في العالم بأكمله، وهذا ما يفسر الموقف المعادي للوحدة الترابية الذي عبر عنه بعض شيوخهم التكفيريين في المغرب. وقد دفعني موقف هؤلاء الشيوخ إلى البحث في موقف رجالات الدين في الديانات التوحيدية الأخرى، فاكتشفت أن رجال الدين اليهود والمسيحيين متعلقون بأوطانهم أشد التعلق ويدافعون عنها باستماتة. وإذا كان هؤلاء الشيوخ ضد الوطن، فلحسن الحظ أن الحاخامات المغاربة انخرطوا بقوة في الدفاع عن المغرب، ما يؤكد وطنيتهم وحبهم للمغرب واعتزازهم بالانتماء إليه. لذلك، فهؤلاء الحاخامات أنفع للوطن، لأنهم وظفوا دينهم للدفاع عن الوطن، في حين وظف هؤلاء الشيوخ مذهبهم التكفيري لإلحاق الأذى بالوطن خدمة للمصالح التوسعية لخصوم الوحدة الترابية المغربية، ما جعلهم يظهرون بمظهر الخائن للمغرب والمغاربة أمام هؤلاء الحاخامات الوطنيين. ولم أتوقف في بحثي عند هذا الحد، بل اطلعت على موقف فقهاء كبار في المغرب من الوطن، فاكتشفت أن الشيخ محمد بن العربي العلوي والمختار السوسي وعلال الفاسي وعبد الله كنون وغيرهم كانوا فقهاء كبار مشهود لهم بتبحرهم في الدين، وأحبوا وطنهم وانخرطوا كلية في الدفاع عنه من أجل استقلاله، وهذا ما يستوجب طرح السؤال الآتي: هل هؤلاء الشيوخ في المغرب يعرفون الإسلام أكثر من أولئك الفقهاء الوطنين الكبار؟ ألا تكمن عقدة هؤلاء الشيوخ في أن جماعاتهم ليس لها أي رصيد في العمل الوطني؟ أليسوا ضد الحقوق التاريخية والجغرافية والقانونية للمغرب؟ ألا يعارضون بذلك حق المغرب في الوجود؟ ألا يشكل ما يسمونه دينا حقدا على المغرب ورغبة في وأده؟...
عندما نتأمل في موقف هؤلاء الشيوخ الظالم للمغرب نجده متطابقا مع موقف جنرالات الجزائر وحكام تركيا وإيران حتى أصبحوا امتدادا لهؤلاء الحكام التوسعيين في المغرب، فكيف نفسر ذلك؟ أليس هذا مثيرا للشك والشبهات؟ أليست هي التبعية والخيانة مقابل المال؟ ألا يحب هؤلاء الشيوخ المال حبا جما؟ ألا تشكل ملفات فسادهم في الجماعات المحلية المعروضة أمام مختلف المحاكم المغربية دليلا على ما أقول؟... ثم أليس موقف هؤلاء الشيوخ معارضا لمشروع السلام في شمال أفريقيا والشرق الاوسط ودول الساحل الذي تم التمهيد له بالتوقيع على اتفاقية الرباط بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل؟.
 
وإذا كان شيوخ جماعات الإسلام السياسي يرغبون في لغة قرع طبول الحرب مع إسرائيل، لأنهم لا يفهمون إلا هذه اللغة، ولأنهم يعتقدون خاطئين أن الواقع يسير حسب إرادتهم، فإنهم عاجزون عن خوض هذه الحرب، وينسون، أو لا يعرفون، أن حكام تركيا والجزائر وإيران يتوددون لإسرائيل ويتمسحون بأحذية حكامها سرا، ويدفعون في الآن ذاته بهؤلاء الشيوخ إلى استعمال هذه اللغة للمزايدة على المغرب بغية النيل من سمعته ومبادئه وقيمه. فهؤلاء الحكام واعون في أعماقهم بضعفهم وعجزهم عن خوض أي حرب مع إسرائيل، ما يجعل خطابهم مع هؤلاء الشيوخ مجرد ادعاء وتضليل ونفاق. ومن بلادة هؤلاء الشيوخ أنهم لم يفهموا لغة النفاق هذه التي جعلتهم ينقلبون ضد وطنهم...
فمنظورهم الأيديولوجي جعلهم يعتقدون أن العالم منقسم إلى قسمين: دار الإسلام ودار الحرب. دار الإسلام تشمل المناطق التي يبسط عليها المسلمون ولايتهم، وتضم إلى جانب المسلمين أشخاصا من غير المسلمين، هم الذميون والمستأمنون. والذميون هم أهل الكتاب الذين اختاروا الاحتفاظ بديانتهم الأصلية مقابل دفع الجزية، ولذلك فهم مواطنون يتمتعون بحماية الأغلبية المسلمة والعيش بأمان، ولكن بشروط في كنف الدولة الإسلامية...
وانطلاقا من هذا التقسيم، يبدو لي أن هؤلاء الشيوخ يتوهمون أنهم يبسطون هيمنتهم الإسلاموية على الشرق الأوسط، ما جعلهم يرفضون الحوار مع إسرائيل التي يعتقدون أنهم قادرون على إجبارها على أن تكون دمية تدفع لهم كفالة!! وهذا اعتقاد مرفوض لا يقبله أي عاقل اليوم، لأنه ينطوي على جهل كبير بالواقع، وينم عن تعصب أعمى يقود صاحبه إلى الهلاك...
ونظرا لامتلاك المغرب للحكمة والتبصر والتعقل وبعد النظر، فإنه يؤمن بالحوار ويرفض الحرب مع إسرائيل. لأنه يرفض لغة القتل، ويعي أن الحرب لن ينتج عنها إلا الدمار. هكذا، فإن المغرب لا يقبل بالفكر الذي يرفض الحوار، إذ ينظر إليه بكونه فكرا يرفض الآخر، كما أن المغرب يرفض الفكر اليقيني المطلق التكفيري الذي يسعى إلى محو الآخر، وإلغاء الفروق بين البشر والمجتمعات والجماعات والشعوب، وبالتالي إقصاء التعددية والقضاء على الخصوصيات والتنوع. والأكثر من ذلك، فالمغرب لا يقبل بهذا الفكر اليقيني المطلق الذي يبتغي إلغاء تاريخ مكونات البشرية والجماعات والمجتمعات بأسلوب أعمى وأدوات عمياء...
فضلا عن ذلك، وبعد المعاناة الطويلة للفلسطينيين، فإنهم أصبحوا يرغبون في الحوار مع إسرائيل لأنهم جربوا أساليب عديدة، واقتنعوا بأن الحوار هو طريق السلام. إن المظلوم قادر على الإقناع بمشروعية مطالبه. ومادام الفلسطينيون قد عانوا من مرارة الحياة بدون وطن لزمن طويل، فإنهم يمتلكون الحجة العقلية لإقناع الرأي العام بعدالة قضيتهم.. 
ومع أن حكام الجزائر وإيران وتركيا يسعون إلى أن يكونوا طرفا في الحوار من أجل السلام في الشرق الأوسط، فإن لا أحد يقبل بهم، حيث إن الجميع على وعي بأنهم يريدون السطو على القضية الفلسطينية والركوب عليها من أجل حل مشاكلهم مع الدول الغربية الكبرى التي لا تثق بهم، بل قد تتخذ مستقبلا عقوبات في حقهم. كما أن السلطة الفلسطينية الشرعية لا تقبل بهم، لأنهم يكرهونها ويتآمرون عليها، لأنهم يسعون سرا إلى إلغائها والقضاء عليها. ولهذه الاعتبارات وغيرها، قبل المغرب التوقيع على اتفاقية الرباط بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، لأنها، في نظره، تشكل طريقا للسلام في شمال أفريقيا ودول الساحل، ومنطقة الشرق الأوسط. ِ
وما يجهله أو يتجاهله شيوخ جماعات الإسلام السياسي هو أن مناهضة الاتفاقية الثلاثية تشكل رفضا للسلام وعودة إلى الحرب، الأمر الذي بات مرفوضا في عصرنا الحالي، لأن رفض السلام يدل على توحش وهمجية أصحابه ورغبتهم في تدمير الآخر ومحوه... وهذا ما ترفضه روح العصر.
لقد تحولت إسرائيل إلى واقع لا يمكن إلغاؤه بالكلام الفارغ، ولا بشعارات القوميين والإسلامويين الذين رفعوا شعارات كاذبة من أجل فلسطين، وحولوا قضيتها إلى تجارة منظمة تذر عليهم أموالا طائلة، كما أنهم يستعملونها لممارسة السياحة في مختلف العواصم العالمية. وهذا ما يفسر رفضهم للحوار من اجل السلام ودعوتهم إلى الجهاد، لأنهم يعتقدون أن السلام لا يخدم مصلحتهم المادية. لذلك، انقلبوا على القضية الفلسطينية من أجل المال. وهذه هي قمة الخيانة.