إن تَمَلُّكَ تعريفٍ للموت، دون رهبةٍ منه، أو محاولة أخذ مسافة عنه، بين ما يقع في حواشيك، وما تَتَمَثّله في شخصك أو بين ذويك، يجعل موضوع الموت في غاية التعقيد..
كان عجوزا في غاية الشباب، يتنقل كالنحل بين مكاتب عملنا، ينقل الفرح قبل نقل ملفات عملنا، والأمور المستعجلة لدوران عجلة العمل..
كان دائم الابتسامة، لدرجة أن مروره على مكتبك يعادل جرعة من الارتخاء والانتشاء اللحظي الضروري لفك ضغوطات العمل.. كانت له مقدرة خارقة على إضحاكك ولو كنت مكفهر السريرة وصفوك معكر.. إن الكوميديا فطرة إنسانية هناك من نبتت في دواخله كزهرة أقحوان لإشاعة السعادة.
كان العمل بالنسبة له متعة لا متناهية، وقمة المتعة حين يجد الحلول الذكية للأمور المستعصية، فهو دائما مستعد للتفاوض والإنجاز المختصر وسرعة البديهة، فبمجرد المناداة عليه يكون خلف مقود سيارة العمل.. وخطط الإنجاز مرسومة بدقة وبشكل مسبق.. والابتسامة لا تفارقه بالطبع.. وقد خرج للتو دون أن ينسى نكتة الصباح حيث يغادرنا وقهقهاتنا لا تزال ترتفع بين مكاتب العمل..
حدث في يوم من أيام مارس، وبالضبط في الثامن منه، أن وزعت بعض الشوكلاته، كالعادة على نساء العمل، احتفاءً باليوم العالمي لنساء العالم، وكان بعد كل 5 دقائق يأتي لمكتبي، ويطلب مني أن أمنحه أيضا شوكولاته، رغم أن اليوم مخصص للمرأة وعيدها الإنساني، تمَازَحْنا كثيرا حول أحقيته لتناولها، لأن الأصل أنني دأبت على هاته العادة للتحسيس في محيطي بأهمية ودور النساء من زميلاتي، وكفاءتهن في دينامية العمل الجماعي.. في صلب ممازَحَتي له، قلت له إن النساء لهن ثيابهن الخاصة، هل ترتدي أنت تنورة أو فستانا لكي تستحق الشوكلاتة في عيدهن العالمي ؟!!.. قهقه طويلا حتى ظهر سنه الأعمق.. وقد ملأت الضحكات المكان.. هو يوم للاحتفال بنساء العمل.. فجأة وبدون إنذار اختفى شيخنا العجوز "ذاك الشابُ القلبِ".. ليعود وسط دهشة الجميع وقد لبس جلبابا نسائيا "كان مخصصا لصلاة نساء العمل".. وهو يقلد نبرة النساء : "أين شوكلاتتي ؟!! ههههههه".. سقط الجميع من الضحك الهستيري الغير متوقع بتاتا.. من وقع قدرته على التفاوض بروح دعابة عالية لا تجعل أمامك مجالا لرفض طلبه.. وقد كان مقنعا لأقصى درجات الإبداع.. فتحت علبة كاملة للشوكولاتة.. وقلت له تستحق أخذ كل العُلب.. فاحتفالك بنساء الكون كان في قمة الإبداع والعفوية والفرح الإنساني..
غادرنا صديقنا العجوز - الشاب "عالم"، ولازالت غصة فقدانه في دواخلي.. كان محبا للحياة ومثالا متفانيا في الضمير المهني والتعامل الإنساني..
وداعا صديقي "عالم"، فأنت من عوالم المتخيل الرائع..
توقف نبض قلبك.. لكنه ينبض دائما وسطنا.
ولترقد في هدوء وسلام.. فنحن نذكرك بخير.
منعم وحتي