الصديقي: من أجل قطاع عمومي ناجع.. تنافسي وديمقراطي

الصديقي: من أجل قطاع عمومي ناجع.. تنافسي وديمقراطي عبد السلام الصديقي

يندرج إصلاح القطاع العمومي ضمن الأوراش الثلاثة التي أعلن عنها الملك في خطاب العرش الأخير، ويتعلق الأمر ب"معالجة الاختلالات الهيكلية للمؤسسات والمقاولات العمومية قصد تحقيق أكبر قدر من التكامل والانسجام في مهامها والرفع من فعاليتها الاقتصادية والاجتماعية". فبالبلاد في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى قطاع عمومي فعال يكون بمثابة رأس الحربة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والانفتاح على العالم.

فبعد تجربة العشرين سنة الماضية التي تحققت خلالها إنجازات هائلة، خاصة في مجال البنيات التحتية، فإن الوقت قد حان للقيام بتشخيص موضوعي قبل الشروع في أي انطلاقة جديدة، وذلك أخذا بعين الاعتبار التحديات المستقبلية للمغرب والحاجيات المتزايدة للمواطنات والمواطنين وللرهانات الجديدة على المستويين الإقليمي والدولي.

فلقد تم تحقيق تقدم هائل خلال الفترة الممتدة ما بين 1999 و2018، كما تدل على ذلك المعطيات التالية: حيث تضاعفت شبكة الطرق السيارة ب 4.5 مرة خلال هذه الحقبة وانتقلنا من 400 كلم إلى 1800 كلم، فيما تضاعفت مرتين شبكة السكك الحديدية منتقلة من 1900 كلم إلى 3800 كلم، وخطوط الترامواي بلغت 68 كلم مقابل الصفر، بينما ازدادت طاقة المطارات بأكثر من ثلاث مرات منتقلة من 12 مليون إلى 37 مليون، في حين قفز عدد المسافرين عبرها من 6.8 مليون سنة 1999 إلى 22.5 مليون سنة 2018.

أما الشحن عبر الموانئ فقد تضاعف بأكثر من 14 مرة، كما أن باقي المؤشرات المتعلقة بالولوج إلى الماء الصالح للشرب والكهرباء والمسالك القروية تطورت بدورها في اتجاه تصاعدي. وخلال نفس الفترة سجلت استثمارات المؤسسات والمقاولات العمومية ارتفاعا سنويا بلغ في المتوسط 7%.

وعلى الرغم من كل ذلك، فلا يمكن اعتبار القطاع العمومي قطاعا مُضخما، كما يسود الاعتقاد، بل إنه لا زال محصورا في مستويات متواضعة. إذ يتضح من خلال المعطيات الحديثة أن هناك 225 مؤسسة عمومية و43 شركة مجهولة الاسم تساهم فيها الدولة بصفة مباشرة، وتمتلك هذه المؤسسات 479 شركة فرعية/ تابعة أو مساهمات من بينها 54% تحظى فيها الدولة بالأغلبية.

وحسب القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، هناك قطاعات تحتل فيها هذه المؤسسات مكانة متميزة، من قبيل النشاطات الاجتماعية والصحة والتربية والتكوين (24%)، ثم الفلاحة والصيد البحري (17%)، والطاقة والمعادن والماء والبيئة (12%)، والسياحة والصناعة التقليدية، والبنية التحتية والنقل ب6% لكل منهما.

أما الاستثمارات المنجزة من طرف الحقيبة العمومية، فقد بلغت 66 مليار درهما، بمعدل إنجاز يقدر ب68%. أما القيمة المضافة فتتجاوز بالكاد 80 مليار درهما ( 8% من الناتج الداخلي الخام) مع رقم معاملات يبلغ 238 مليار درهما.

ومع ذلك، تظل هذه الاستثمارات مركزة بنسبة 60% في ثلاث جهات فقط هي الدار البيضاء سطات، الرباط سلا القنيطرة، وطنجة تطوان الحسيمة. وهو ما يشكل نقطة ضعف للقطاع العمومي الذي لا يساهم في الحد من التفاوتات المجالية.

فانطلاقا من هذه المعطيات، ينبغي قراءة مقترحات الإصلاح التي كشف عنها مؤخرا وزير المالية، والتي تختلف حسب طبيعة المؤسسات والمقاولات العمومية.

فبالنسبة للمؤسسات والمقاولات ذات الطابع غير التجاري والاجتماعي، يُقترح إسناد بعض مهامها إلى الوزارات المعنية بعد تصفية أو حل المؤسسات والمقاولات العمومية التي ليس من الضروري الحفاظ عليها، وتجميع بعض المؤسسات والمقاولات ذات الأهمية الاستراتيجية، ثم العمل على تصفية أو حل تلك التي لم يعد لوجودها فائدة.

أما بالنسبة للمؤسسات والمقاولات العمومية ذات الطابع التجاري والمالي فيُقترح بشأنها تعزيز استدامة النموذج الاقتصادي والمالي، من خلال تقليص التبعية للميزانية العامة للدولة وتحسين مساهمتها في هذه الميزانية، وتثمين الأصول، كما يُقترح مجموعات وشركات قابضة قطاعية متجانسة تلبي المتطلبات ذات الحجم المثالي وعقلنة التدبير والجذب بالنسبة للسوق المالي واستغلال فرص جديدة يوفرها الذكاء الاصطناعي والرقمنة والاقتصاد الدائري.

ويُقترح أيضا إحداثُ وكالة لتدبير المساهمات التجارية والمالية للدولة، ويُعهد إلى هذه الوكالة القيام بالمهام التالية: تعزيز دور الدولة كمساهم وتعزيز الحكامة الجيدة على مستوى المؤسسات والمقاولات العمومية، وضمان التدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة، ثم تتبع نجاعة أداء المؤسسات العمومية.

ويظل الهدف الأخير هو تحقيق إعادة هيكلة هذه المؤسسات ومراجعة حجمها، حول ثلاثة أقطاب استرايجية: قطب يجمع المقاولات العمومية في مجال البنية التحتية، وقطب ثاني يُعنى بما هو اجتماعي مع دمج وكالة التنمية الاجتماعية والتعاون الوطني ومكتب تنمية التعاون وصندوق المقاصة في مؤسسة واحدة، ثم قطب ثالث يهم قطاع الفلاحة والصناعة الفلاحية مع دمج المكتب الوطني للحبوب والقطاني وشركاته الفرعية في مؤسسة واحدة مع العمل على تفويتها للخواص. وهذه المسألة تستوجب النقاش. أما بالنسبة لوكالات التنمية الجهوية في الشمال والشرق والأقاليم الصحراوية، والتي أصبحت متجاوزة بعد إنشاء الوكالات الجهوية لإنجاز المشاريع، فسيتم بالطبع حذفها.

ومن خلال هذا التصور، يظهر أن هناك رغبة أكيدة في العقلنة والتبسيط، بغية تجاوز التكرار، وخلق مؤسسات ذات حجم كبير يسمح بتحقيق نمو خارجي.

ولا بد من التذكير بأن الأمر يتعلق بمقترحات وفرضيات للعمل، لأن قرارات من هذه الأهمية تحتاج إلى حوار ديمقراطي حقيقي، خاصة على مستوى البرلمان، علما أن لا أحد يمكنه أن يجادل في ضرورة الإصلاح في اتجاه الفعالية والتنافسية. فالمغرب في حاجة ماسة، أكثر من أي وقت مضى، إلى تحقيق قطاع عمومي قوي ومُطَهَّر وخاضع للمراقبة الديمقراطية، مع إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وينبغي أن نتجاوز، على هذا المستوى، كل مقاربة دوغمائية وإيديولوجية صرفة، وتبني، بالمقابل، مقاربة براغماتية/عملية، لتجاوز "الخصومة" العقيمة بين القطاع العمومي والقطاع الخصوصي. فالتجربة أبانت على أن القطاع العمومي ليس بالضرورة مرادفا لانعدام النجاعة، كما أن حُسن الأداء ليس حكرا على القطاع الخاص، فالأمر مرتبط بسلوك الساهرين على قيادة المقاولة وتدبيرها، ومدى احترامهم لقواعد السلوك الفضلى. وعليه، علينا أن نعمل في اتجاه التكامل بين القطاعين وسن قواعد التسيير الواجب اتباعها. فإذا كانت الخوصصة، باستثناء القطاعات المنتجة للخدمات الاجتماعية الأساسية، لم تعد من"المحرمات" فإنه ينبغي الإقرار أيضا بأن التأميم لا يشكل بدوره "خطرا".