ميشيل مافيزولي: أزمة فيروس كورونا أو العودة الكبرى للتراجيديا

ميشيل مافيزولي: أزمة فيروس كورونا أو العودة الكبرى للتراجيديا ميشيل مافيزولي

دون أن نخشى غضب طبقة مثقفة خائفة، لا يمكن أبدا أن نقول، بشكل كاف، أننا نشهد أفولا حتميا للحداثة. ونشهد نهاية عالم تتجلى بشكل يومي في انحطاط فكري، سياسي واجتماعي، تبدو أعراضه واضحة بشكل متزايد.

 

أي انحطاط هذا، إن لم يكن انحطاط الأسطورة التقدمية؟ ففي علاقة بإيديولوجيا الخدمة العمومية، تم استخدام هذه النزعة التقدمية لتبرير الهيمنة على الطبيعة، وتهميش قوانينها الأساسية، وبناء مجتمع على أساس مبادئ النزعة العقلانية المجردة وحدها، والتي يبدو مظهرها المَرضي أكثر وضوحا. وما يسمى بالإصلاحات “المجتمعية” (الزواج للجميع، الحمل للآخرين GPA، الإنجاب بمساعدة طبية PMA، وما إلى ذلك) تمثل صورا كاريكاتورية لذلك.

 

النقطة الأساس للإيديولوجيا التقدمية هي الطموح، بل التظاهر بالقدرة على إيجاد حل لكل شيء، وتحسين كل شيء من أجل تحقيق مجتمع مثالي وإنسان يكون محتمل الخلود.

 

سواء أكنا نعرف ذلك أم لا، فإن الجدل: الأطروحة، النقيض، ثم التركيب هو الآلية الفكرية المهيمنة. ذلك أن المفهوم الهيغلي "للتجاوز" (Aufhebung) هو شعار الميثولوجيا التقدمية. إنه بالمعنى الدقيق للكلمة، تصور للعالم “الدرامي”، القائم على القدرة على اجتراح حلول وقرارات تؤدي إلى الكمال في المستقبل.

 

"الإنسانية لا تطرح أبدا إلا المشكلات التي تستطيع حلها"، إنها صيغة لكارل ماركس K. Marx تلخص بشكل جيد مثل هذه الميثولوجيا. وتلخص الطموح، والتظاهر بالقدرة على التحكم بكل شيء. وسواء أردنا الاعتراف بذلك أم لا، فإنه يوجد يسار ويمين ممتزجين، و”مركسة” (إضفاء الطابع الماركسي) حقيقية لأنماط الفكر. فالنخبة الحديثة: السياسيون والصحافيون ومختلف الخبراء، هي نخبة ملوثة بادعاء جنون العظمة إلى حد ما. وبأنه في مستقبل قريب، سوف نتمكن من تحقيق مجتمع مثالي!

 

إن هذا التصور الدرامي، وبالتالي المتفائل، هو الذي يقترب من نهايته. وفي التأرجح الصارم للتاريخ البشري، يميل الشعور بتراجيدية الحياة إلى أن يسود من جديد. فالدرامي، كما قلت، تفاؤلي بالتأكيد. والتراجيدي يتضمن إحراجا، أي أنه بدون حل. ذلك أن الحياة تكون ما هي عليه.

 

بدلا من إرادة السيطرة على الطبيعة، فنحن نتوافق معها. وهناك مثل شعبي يقول "لا يمكننا التحكم في الطبيعة إلا من خلال طاعتها". لذلك، فليس الموت هو ما يمكننا تجاوزه. ولكنه ما ينبغي التوافق معه.

 

إن هذا ما تذكرنا به، بشكل رئيس، “الأزمة الصحية”. فالموت الوبائي هو رمز نهاية النزعة التفاؤلية الخاصة بالنزعة التقدمية الحديثة. ويمكن النظر إليه على أنه تعبير عن استشعار، روحي إلى حد ما، أن نهاية حضارة ما يمكن أن تكون خلاصا، وفي معناه القوي، فهو علامة على ولادة جديدة. مما يشير إلى استمرارية نزعة حيوية أساسية!

 

إن الموت المحتمل، والتهديد المعاش يوميا، هو واقع لا يمكن أن ننكره، ولم يعد بإمكاننا أن ننكره، والموت الذي نكون مجبرين حتما على أن نقوم بإحصائه، هذا الموت، المنتشر في كل مكان، يذكرنا من خلال طابعه الملموس بأن نظاما للأشياء يقترب من النهاية.

 

إن ما هو ملموس، كما أذكر: cum crescere، هو ما “ينمو مع”، مع واقع لا يمكن دحضه. وهذا الواقع هو موت “نظام الأشياء” الذي شكل العالم الحديث!

 

إنه موت النزعة الاقتصادية المهيمنة، وموت هذا التغليب للبنية التحتية الاقتصادية التي هي سبب وأثر النزعة المادية قصيرة النظر.

 

إنه موت تصور فرداني خالص للوجود. فمن المؤكد أن النخب القديمة تستمر في إنتاج التفاهات من نوع “مراعاة النزعة الفردانية المعاصرة”، وترهات أخرى مشابهة. لكن القلق من النهاية، وهي النهاية التي لم يعد من الممكن إخفاء واقعها، والتي تحض، على العكس من ذلك، على التماس المساعدة المتبادلة، والمشاركة، والتبادل، والتطوع، وقيم أخرى على شاكلتها كانت النزعة المادية الحديثة تعتقد أنها تجاوزتها.

 

وبوضوح أكبر، فالأزمة الصحية تشير إلى موت العولمة، باعتبارها القيمة المهيمنة لنخبة مهووسة بسوق بلا قيود، وبلا حدود حيث، هنا أيضا، ينتصر الشيء على الذات، والمادي على الروحي.

 

دعونا نستحضر التعبير الحكيم للفيلسوف جورج سيميل Georg Simmel، متذكرين أن التوازن الصحيح لكل حياة اجتماعية يكون من خلال التوافق الذي يجب أن يوجد بين “الجسر والباب”. فالجسر ضروري للعلاقة، والباب ينسِب (يضفي الطابع النسبي) هذه العلاقة بهدف الوصول إلى انسجام مفيد للجميع.

 

هذا ما أسميه “الحكمة الإيكولوجية”، أو حكمة البيت المشترك. وبعبارة مألوفة أكثر، إنها مسألة إدراك أن “المكان يخلق الروابط”. فكل الأشياء تذكرنا بأنه في مقابل الفكرة الماركسية المتكررة: “إن هواء المدينة يحرر”، توجد صيغة أصلية للاجتثاث، وهي أن التربة الأصلية تستعيد قوة ونشاطا لا يمكن إنكارهما.

 

إن التأصيل الديناميكي يذكرنا بأن النبتة البشرية، مثل أي نبتة أخرى، تحتاج إلى جذور لتكون قادرة على النمو، بقوة وعدالة وجمال! وهكذا في مواجهة الموت لم يعد بإمكاننا الحضور، ويتم تذكيرنا بالحاجة إلى التضامن الخاص بـ “نموذج مجتمعي” ما زال البعض يتهمه، بحماقة، بالنزعة الشيوعية.

 

إن موت الحضارة النفعية حيث يكون الرابط الاجتماعي ميكانيكيا في الغالب، يسمح بكشف عودة ظهور التضامن العضوي. وهي عضوية يسميها الفكر الباطني “بالتوافق”. وهو ما كان جورج دوميزيل Georges Dumézil  قد حلله جيدا من خلال التذكير بالتفاعل والتوازن الموجود، في أوقات معينة، بين "الوظائف الاجتماعية الثلاث".

 

إن الوظيفة الروحية، تؤسس السياسي، العسكري والقانوني، وتؤدي إلى التضامن المجتمعي. وتؤدي بالتالي، إلى ما بعد إدارة مفرطة منفصلة عن الواقع، وهذا هو التصور الكلي الذي نراه يعاود الظهور هذه الأيام..

 

لكن أخذ مثل هذا التوافق العضوي في الاعتبار يتطلب منا أن نعرف كيف نعبر عنه من خلال كلمات تكون أكثر ملاءمة مع مرور الوقت. إنه لأمر ممتع، ومن الأفضل أن نقول محزن، أن تقرأ لأغلب المراقبين الاجتماعيين أن الوضع درامي، وبعد بضعة أسطر تجد حديثا عن مظهره التراجيدي. وهذا يدل على أن قول أفلاطون لا يزال محتفظا براهنيته: "يبدأ انحراف المدينة بخداع الكلمات!"

 

إن التصور “الدرامي” يكون خاصا بنخبة تعتقد أنها تستطيع إيجاد حل مناسب لكل شيء. أما “التراجيدي”، فهو على العكس تماما، يتوافق مع الموت. إنه يعرف، من خلال معرفة مندمجة وخاصة بالحكمة الشعبية، كيف يعيش الموت كل يوم.

 

هكذا تكون الأزمة الصحية التي تجلب الموت الفردي علامة على أزمة حضارية، وهي الأزمة المتعلقة بموت الباراديغم التقدمي الذي كان له شأن. ولعل هذا ما يجعل البيئة التراجيدية، المعاشة في الحياة اليومية، أبعد ما تكون عن الكآبة، وعلى وعي بأنها في قيامة مستمرة. تلك التي من خلال الوجود- في كليته، ومن خلال الوجود- مع، ومن خلال المرئي الاجتماعي، سيحتل فيها الروحي غير المرئي مكانا للاختيار.

 

- ترجمة: محمد بعدي

 

(عن موقع "كوة")