عبد الله حارص.. شفرة لغز قيدوم جمعوي يُبعث كل يوم من جديد

عبد الله حارص.. شفرة لغز قيدوم جمعوي يُبعث كل يوم من جديد

على عادة كل زمان، فإنه لا يمر بوطن حي إلا وسجل على صفحاته وبين طياته مشاوير رجال، منهم من يبقى مجهولا، ومنهم من يصبح معلوما.. ويا حظ من يعاصر هذه الأسماء ويعرفها.

عبد الله حارص، واحد من هذه الأيقونات التي ليست رمزا ساطعا للعمل الجمعوي فحسب، ولا فاعلا لامعا فقط، ولا مجرد إنسان متميز يحسن أبجدية الثقافة الخاصة والعامة، بل هو مجموعة سلاسل ذهبية بسبحة الفطنة والذكاء وقوة الشخصية أيضا. لذلك كان من أبسط استحقاقاته أن تقتحم "أنفاس بريس" مكتبه المتواضع بقلب "المدينة القديمة" في الدار البيضاء، والدخول معه من غير مقدمات في تقاسم لحظة اعتراف وصفاء، أزيح خلالها كل ما حول الفضاء من أشياء وجدران، والسفر إلى أزمنة بعيدة وإن من نفس المكان، حيث انحنت كافة سبل النجاح والتواضع لهذه الفلتة من فلتات أيامنا. مما أفضى إلى صورة لا تنطق سوى برجاء لقاء آخر كأسمى أمنية...

بعد أن تم الاختيار، وصنع القرار، لم يكن حينها سوى الإعلان عن بداية المشوار. وكما في أي مسار، هناك خيال، أحلام وأفكار. تتطاير جميعها وتتزاحم إلى درجة الاستعجال بالخروج كممارسة حية إلى أرض الواقع. وبقدر ما تبدو هذه الأشواط والمراحل يتقاسم خيطها الرابط كل الأفراد ذوي عزيمة النجاح والتميز، بقدر ما تتخللها خصوصيات عند الحديث عن عبد الله حارص، ما كان ليؤشر عليها توقيع لولا توقيعه ولا أن تحمل بصمة بديلة عنى بصمته، خاصة وأنه حتى قبل أن يشتد عوده وهو في سن الـ 12 لعبت الصدف دورها في أن يحظى بالمشاركة ضمن إحدى المخيمات والذي لم يكن سوى "مخيم للا مريم".

- فلتة من منفذ أميري..

إنما على الجانب الآخر، كان القدر صارما في ترتيب أوراقه من حياة هذا الطفل، ولم يكن يقبل تفاوضا بشأن ضرورة أن يشد الرحال إلى غمار مجال مثقل بمتاعب التحديات. وبما أن لا منازع لترتيبات القدر، استقر توجهه على الانصهار في هذا العالم، ومن ثمة التدرج عبر مختلف سلالمه إلى أن بزغ لنا اسم عبد الله حارص الذي نعرفه الآن.

ومع ذلك، فإن كل من حاول جرد إسهامات حارص وشتى التجارب التي راكمها، سيقع في متاهة القصور بفعل تواصل الرجل الدائم مع مبدئه الراسخ "هل من مزيد..؟"، وتفوقه في الحفاظ على وقود هذا النجاح كي يثبت على القمة. لذلك، كان سهلا عليه امتلاك ثقة جميع فعاليات المجتمع المدني، التي لا توجد إحداها إلا وطلبت ود التعامل معه كقيمة مضافة صعبة التجاوز. وكيف لا، وهو الذي كان مؤطرا بالمعهد الملكي لتكوين أطر وزارة الشبيبة والرياضة، ومؤطرا متخصص للتداريب التكوينية لجمعية الشعلة للتربية والثقافة، ومديرا للمخيمات الصيفية، ومؤطرا لأنشطة حقوق الطفل والتواصل وديناميكية الجماعة، ومؤطرا معتمدا من الاتحاد الدولي لمآوي الشباب بالمنطقة العربية.

- البصمة التي لا تتكرر..

هي إذن مسيرة حافلة بالعطاء على الدرب الجمعوي، خطط عبرها ملامح منفردة به تتأسس على جدارته وحضوره الكارزمي، وكذا خبرته الثقافية الواسعة. فقد كان من الممكن بعد حصوله على وظيفة التدريس كأستاذ للغة العربية منذ سنة 1973، أن يكتفي بها، لكن إيجاده لذاته في العمل الجمعوي دفعه إلى أن يتشبث به على نحو موازي. وفي كلتا المهمتين لم يكن يولي للجانب المادي الاعتبار قياسا برغبته الأكيدة في الإحساس بتأدية رسالة قبل أي شيء آخر. والأكثر من ذلك ظلت صلته بجميع هذه الأداءات بعيدة عن طمع الظهور والتباهي، بل  حرص على أن يكون مثل "الصدقة المستورة"، مجندا وعلى استعداد دائم لخدمة القضايا المجتمعية بوازع صحوة الضمير ليس إلا.

وعليه، كان طبيعيا استيعاب قوله وهو يشدد على أن ما يقدمه لم يكن إطلاقا بخلفية انتظار أجرة آخر الشهر، ولكن حبا وعشقا لاختيارات سلبت كيانه حتى النخاع، طالما أنها الطريق المعبد لتحقيق توازنه النفسي النابع من رحم الراحة النفسية لغيره. وبالتالي، ما إن تكاد عقارب ساعة تلتحق بأهدافها حتى تبدأ عقارب ساعة أخرى في الدوران، معلنة توقيعا غائرا في عمق سجل الإنجاز ببصمتها، والبصمة، كما هو معلوم، لا تتكرر.