في شهر شتنبر 2011، احتفلت بريطانيا بافتتاح أكبر مركز تجاري بأوربا ذي مساحة 177 ألف متر مربع مبنية، ليس لكونه مركزا جديدا للتسوق، بل لأن هذا المركز افتتح في شرق لندن قرب المنطقة الرياضية التي احتضنت الألعاب الأولمبية عام 2012.
هذا المركز التجاري والملاعب الرياضية التي احتضنت الألعاب الأولمبية بنيت عمدا في الضاحية الشرقية للعاصمة لندن لإنصافها من الناحية المجالية ومحاربة الفوارق والهشاشة الترابية والاجتماعية التي كانت تميز لندن. وهو رهان ربحته بريطانيا بالنظر إلى أن هذا المركز التجاري لوحده وفر 10 ألف منصب شغل منها 2000 منصب للعاطلين من أبناء شرق لندن (اسمعوا يا أبناء درب الطاليان وحي كوبا وليساسفة وسيدي عثمان).
استحضرت هذا المثال المشرق وأنا أتابع اجتماعات رد الاعتبار للمدينة العتيقة بالدار البيضاء التي تعد أفظع منطقة في سلم الهشاشة بالمغرب بالنظر إلى أن هذه المدينة (نتحدث عن تلك الموجودة داخل السور) تأوي 108 ألف نسمة (أي خمس سكان إمارة قطر) داخل مساحة لا تتعدى 106 هكتارات، وهو ما يمثل مساحة ملعبين من حجم مركب محمد الخامس، بشكل يجعل المدينة العتيقة بالبيضاء من أشد الأحياء المغربية كثافة.
ومعلوم أن الباحثين في التهيئة الحضرية يستلهمون دائما مثال البيولوجية الحيوانية المتمثل في أنه كلما وضعنا فئرانا داخل قفص مريح يتعايشان وكلما زاد عدد الفئران إلا وتزداد حدة التوتر ليصل الاحتقان مداه في حالة امتلاء القفص بكامله بالفئران، إذ يستحيل التعايش ويتحول إلى اقتتال بل وافتراس الفئران لبعضها البعض. وهذا بالضبط ما ينطبق على سكان المدينة القديمة بالبيضاء الذين يعيشون يوميا «حالة اقتتال» بسبب الاكتظاظ وغياب المرافق والساحات والمنافذ.
ورغم الصحوة التي مست السلطة العمومية وهي الصحوة التي باركها الملك محمد السادس بزياراته المتكررة كل سنة مؤخرا للمنطقة، بل وترؤسه حفل تأهيل الشطر الأول من المدينة العتيقة بقيمة 30 مليار سنتيم وكذا الشطر الثاني من المشروع وإشرافه في الأسبوع الماضي على بعث الروح في رأسمال المدينة الديني (إسلامي ويهودي)، فإن المتتبعين لا يترددون في التعبير عن مطلب رئيسي من شأن اعتماده أن يسرع من عملية رد الاعتبار للمدينة القديمة بالدار البيضاء. وهذا المطلب يتجلى في أن مصالح الجيش قامت بترحيل العديد من التكنات بوسط الدار البيضاء في إطار عملية عمرانية كبرى (la reconversion)، سواء بحي عين البرجة أو العنق أو حي اللايا أو جانكير، بشكل جعل التساؤلات مشروعة بشأن مآل ثكنة البحرية الملكية ومدارسها الموجودة بجوار المدينة القديمة. إذ أمام صمت السلطات العمومية فلا أحد يعرف مصير هذا العقار العسكري الذي يضم داخله ملاعب ومسابح مهمة من شأن الاحتفاظ بها وفتحها في وجه سكان المدينة القديمة -بعد ترحيل الثكنة طبعا- أن يلبي حاجة ملحة للشباب والأطفال خاصة، بالنظر إلى أن هذه الفئة العمرية بالمدينة القديمة لا تجد أي فضاء تفرغ فيه الشحنة السلبية التي تختزنها مما يؤدي إلى الانزلاق السهل نحو عالم الإجرام والمخدرات والدعارة وكل الآثام التي تحبل بها اليوم سجلات الشرطة.
ليست مصالح القوات المسلحة الملكية هي المعنية بما يجري من إعادة تأهيل المدينة العتيقة فقط، بل أيضا مصالح الشرطة التي توجه لها سهام النقد الشديد بسبب شيوع الإجرام والاعتداء داخل هذه المنطقة. من هنا ذاك الاقتراح الرامي إلى تفريغ مقر ولاية الأمن بالدار البيضاء من مصالح أمن أنفا وتحويلها إلى داخل المدينة العتيقة (مثلا بدرب كناوة)، وهو ترحيل -إن استجابت له الدولة- سيقود إلى تطبيع أمني من جهة وسيرفع من جاذبية المدينة القديمة لدى باقي سكان الدار البيضاء من جهة ثانية وسيخلق رواجا مهما من جهة ثالثة، وسيلعب المقر الجديد للمنطقة الأمنية لأنفا رافعة تنموية وعمرانية بالمدينة القديمة.
فإن استطاعت لندن كسب الرهان باعتماد خطة جريئة للتهيئة الحضرية بشرق المدينة، فما المانع من أن لا يكسب المغاربة الرهان من إدماج العسكر والبوليس في مشروع جريء لرد الاعتبار لأقدم حي بالدار البيضاء الذي سيجاور المارينا والكورنيش الجديد وسيجاور أحد أضخم المشاريع الساحلية المهيكلة "وصال"، المرتقب إحداثه على أنقاض الميناء القديم ومستودعات الأوراش البحرية بشارع الموحدين؟