برغم ما يحيط بالزيارة الملكية الأخيرة، وتحديدا باتفاقية خط أنابيب الغاز الموقعة ببين المغرب ونيجيريا من أبعاد استراتيجية واقتصادية وسياسية اسثتنائية، فهي مع ذلك مجرد حلقة في نموذج تنموي يرعاه الملك محمد السادس تتويجا لسلسة من الاتفاقيات ذات الأهمية نفسها مع كل بلدان إفريقيا بتنوع انتمائها الحضاري وتعدد نسيجها الثقافي واللغوي، وتألف وجهات النظر السياسية أو اختلافها. ولذلك فما أنجز خلال كل الزيارات الملكية الأخيرة لتلك الأقطار يستتبع منطقيا وجدليا زيارات لاحقة تؤكد تواصل استراتيجية الملك في إفريقيا التي يرى الملك أنها مطالبة بأن تجعل من القرن الواحد العشرين قرن انتصار الشعوب على آفات التخلف والفقر والإقصاء، ومواجهة تحديات التنمية التي تعيق نمو القارة، وتهدد استقرارها السياسي، بعد أن كان القرن الماضي بالنسبة لدولها بمثابة قرن الانعتاق من الاستعمار كما أكد ذلك في حفل افتتاح المنتدى الاقتصادي المغربي الإيفواري في فبراير 2014. ومع ذلك فهذا التوجه الديناميكي نحو إفريقيا لا ينبغي أن يقرأ مندرجا في إطار سياسة رد الفعل كما تذهب إلى ذلك بعض التحليلات المتسرعة، أو المنحازة إلى خصومنا، التي تربط هذه السياسة في أهداف قصيرة المدى من قبيل تطويق النظام الجزائري، أو تعبيد المسالك السياسية لاستعادة المغرب لمكانته داخل المنظومة الإفريقية الذي كان قد غادرها سنة 1984 إثر قبول جمهورية الانفصال في حظيرتها.
في هذا السياق ينبغي أن نستحضر معطى دالا في التوجهات المغربية نحو إفريقيا. ذلك أن بلادنا كانت قد أعلنت في أبريل 2000، أي سنة واحدة بعد اعتلاء محمد السادس عرش المغرب، قرارها خلال القمة الإفريقية الأوروبية بإلغاء ديون البلدان الإفريقية الأقل نموا، وإعفاء منتوجاتها من الرسوم الجمركية. وقيام الملك بعد ذلك بأول جولة إفريقية شملت أربع دول سنة 2004.
ومعناه أن الملك كان يعي بأن تصوره الاستراتيجي لنهضة المغرب مرتبط بتصور جوهري لنهضة القارة، وبأن ذلك سلوك متأصل في السياسة الخارجية المغربية منذ استقلال المغرب في منتصف القرن الماضي.
يكفي فقط أن نشير إلى الدور المركزي للمغرب في تأسيس في الإسهام في تحرير عدد من البلدان في إفريقيا، وفي عمله على وحدة القارة.
وهو ما تواصل حتى بعد قرار المغرب مغادرة منظمة الوحدة الإفريقية. نضيف إلى ذلك أن البعد الإفريقي في سياستنا الخارجية يتكامل بنيويا مع علاقتنا مع المحيط المغاربي والعربي والدولي. وضمن هذه الأبعاد المتعددة نقرأ سعي المغرب من جهة إلى إحياء الاتحاد المغاربي الذي يصطدم بتعنت الجزائر، وسعيه من جهة ثانية إلى توطيد علاقاته مع الدول العربية، وتحديدا مع بلدان مجلس التعاون الخليجي التي تم تتويجها بنتائج قمة الرياض في أبريل الماضي.
وضمن ذلك أيضا نقرأ من جهة ثالثة توسيع مدار علاقاتنا الدولية، خاصة بعد النتائج الهامة لزيارات الملك إلى كل من روسيا والصين,
إن قيمة الحضور المغربي في إفريقيا اليوم، وقيمة الزيارات الملكية الأخيرة على نحو خاص، تتمثل أساسا في ثلاثة أبعاد تتكامل في ما بينها لترسم خريطة جديدة لمستقبل المغرب في تقاطع مع مستقبل إفريقيا.
* البعد الأول ذو طابع اقتصادي واضح يقوم على مبدإ أكثر وضوحا: إقامة الشراكة على أساس رابح ـ رابح التي تفيد ما يعني أننا نتقاسم مع الدول التي تقترح عليها نموذجنا التنموي للقارة فكرة الاقتسام المتساوي لأرباح التنمية المنشودة. يتبين ذلك في نوعية الوفد المصاحب دائما للملك، وفي نوعية مشاريع الاستثمار الموقعة، والتي تبحث في حلول مستدامة لأعطاب القارة انطلاقا من طاقاتها الذاتية (البترول والغاز والذهب والفوسفاط والموارد البشرية والخبرات التقنية)، وانطلاقا من حاجة المنتظم الدولي لهذه الطاقات. وليس من باب الصدفة أن تخصص قمة التغيرات المناخية التي احتضنتها مراكش مؤخرا حيزا دالا لإسماع نبض إفريقيا، وإعلان انخراطها في الجهد الدولي من أجل عالم صديق للبيئة، وللإنسان.
* البعد الثاني ذو طابع ثقافي ـ مذهبي ينطلق من فهم المغرب لهذا الطابع كدعامة مركزية لحماية القارة من التهديد الإرهابي، ولضمان أمنها الروحي. ولأن بلادنا تكرست كمنطقة استقرار سياسي واجتماعي بفضل سيرورة بنائها الديمقراطي الناشئ، وبفضل مؤسسة إمارة المؤمنين الممثلة لإسلام مالكي متسامح ومتفتح فإن ذلك يشكل بكل تأكيد إحدى الرسائل الجوهرية التي تحملها الزيارات الملكية إلى إفريقيا حيث يقيم المغرب اتفاقيات لدعم التكوين الديني، ولتأطير الأئمة والدعاة. كما يحرص الملك شخصيا على إنشاء بيوت الله هناك، وعلى إهداء المكلفين بالشأن الديني نسخا من القرآن الكريم بقراءة ورش عن نافع.
* أما البعد الثالث فذو طبيعة سياسية ويقوم أساسا، لا على المصالح الآنية الانتهازية تحديدا كما مارست الجزائر ذلك لسنوات عبر شراء ذمم الدول وقادتها، ولكن على أساس جعل السياسة استثمارا في الزمن الإفريقي المشترك. بهذه الغاية لم يشترط المغرب دخول عهد الشراكة مع إفريقيا وفقا فقط للعامل السياسي، بل لقد اختار نهجا مختلفا يجعل نهضة الإنسان ومجاله هي المنطلق.
تلك هي سيرة مسافة الألف ميل التي دشنها المغرب الإفريقي بخطوة واحدة صارت تتنامى أمام أنظار أبناء المغرب والقارة والعالم، في انتظار استكمال الخطوات الأخرى حتى تحقق إفريقيا طموحها في السيادة الكاملة، وفي الانتصار على التخلف.