قضايا عديدة مفتوحة ومطروحة للنقاش العمومي على الساحة السياسية المغربية لم يتبلور لحد الآن أي توافق وطني حولها. ويبدو من خلال حدة النقاش وتشعبه حول بعضها أن أي حلول توفيقية لها ستكون ذات طبيعة ترقيعية وفي أغلب الأحوال مؤقتة ؛ الأمر الذي يؤشر على أن جوهر الخلاف حولها بنيوي يرتبط بالأسس القانونية التي وضعت لها.
- إن أول قضية بارزة وآنية في هذا السياق هي أزمة "البلوكاج الحكومي"، الذي ناهز الشهرين دون أي بصيص أمل على تجاوزه في القريب العاجل. والطامة الكبرى أن القضية ارتدت أبعادا شخصية، وكأنها مبارزة ثنائية لا علاقة لها بالسياسات ولا بالبرامج والأولويات دون وعي بالخسائر المحتملة ماديا ومعنويا للبلاد من حالة الركود هذه، ودون أدنى التفاتة للإرادة الشعبية، التي يجري تكريس مفهوم انتهاء دورها عند الإدلاء بصوتها.
ومن الطبيعي في وضع كهذا أن تتناسل العديد من الأطروحات الفكرية والقانونية والسياسية الباحثة عن إيجاد مخرج لهذا "البلوكاج"، مدعية كلها الاستناد إلى نصوص دستورية جرى تأويل بعضها بشكل تعسفي لتواكب رأي هذه الأطروحة أو تلك، مثلما حصل مع الفصل 42، الذي استدعاه كثيرون للمطالبة بالتحكيم الملكي في النازلة.
إن الفصل 42 يعطي لجلالة الملك من بين مهام متعددة دور "الحكم الأسمى" بين المؤسسات في إطار السهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية. وفي الحالة التي نعيشها الآن نحن أمام مؤسسة منتخبة ولكنها غير مفعلة انتظارا للمساومات السياسية (مجلس النواب)، ومؤسسة لم تشكل بعد (الحكومة). فهل يحكم الملك بين الأشباح ؟
وقد كان لافتا أيضا مطالبة البعض بتطبيق مقتضيات الفصل 98 الخاصة بإجراءات حل أحد مجلسي البرلمان، متناسين أن هذا النص والنصين اللذين قبله 96 و97 نصوص إجرائية فقط تتضمن الشروط الواجب اتباعها عند اللجوء إلى تنفيذ الفصل 51 الذي يعطي لجلالة الملك حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما.
والواقع أن كل مقترحات المخارج المطروحة تهدف إلى التغاضي عن المطالبة بمراجعة الفصل 47 من الدستور، الذي جاء قاصرا، ولم يتضمن لا بدائل لاحتمال فشل الشخص المكلف بتشكيل الحكومة، ولا آجال محددة لانتهاء التكليف، الأمر الذي جعل البلاد تعيش حالة شلل بحكومة غير مسؤولة لدرجة اختلطت فيها القبعات الشخصية بين الرسمية والحزبية وبدأت بزلات لسان تخلق حالات إحراج داخلية ودولية ليس هذا أوان خوضها، إلا إذا كانت مقصودة بغرض تحريك مياه آسنة.
- وفي خضم أزمة "البلوكاج الحكومي" جاءت توصية المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حول ما سمي إعلاميا بإلغاء مجانية التعليم الثانوي والجامعي لتزيد من درجة الاحتقان المجتمعي الملتهبة أصلا بالزيادات المتواصلة في أسعار المواد الأساسية. وهي توصية راعت الآجال القانونية لإصدارها كما ينص على ذلك القانون الداخلي للمجلس، واحترمت مبدأ استمرارية عمل المؤسسات بغض النظر عن وضعها الفعلي، ولكنها لم تراع الظروف السياسية والاجتماعية للبلاد.
لقد جاءت التوصية منسجمة مع محتوى الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم 2015/2030 ولكن في تناقض تام مع العنوان البراق الذي وضع للرؤية "من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء". فأي إنصاف في التوصية عندما توضع رسوم على ولوج التعليم الثانوي والجامعي؟ وعلى أي أساس ومعيار سيعفى هذا ويدفع ذاك ؟ ألن تفتح هنا باب أخرى للارتزاق والابتزاز؟
ومع ذلك، تنبغي الإشارة إلى أن الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المنظومة التعليمية، التي تبناها مجلس وزاري، وكل ما انبثق أو سينبثق عنها من قرارات وتوصيات ومراسم قانونية منسجم تماما مع أحكام الدستور الجديد في فصله 32 الذي يرى أن التعليم الأساسي فقط هو الذي يعتبر "حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة".
ولكن من الجدير بالملاحظة هنا أن مقتضيات هذا الفصل الدستوري ( 32 ) لا تتماشى على الإطلاق مع ما جاء في الفصل الذي قبله (الفصل 31) الذي فرض على الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية العمل من أجل تعبئة "كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في: ......... 3/ "الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة". وبطبيعة الحال فإن عبارة "ميسر الولوج " حمالة أوجه، وتأويلها جائز في هذا الاتجاه أو ذاك.
يقتضي الواجب الوطني عند تضارب النصوص أو عدم تناغمها في مسألة حيوية كالتعليم طمأنة المواطنين إلى استمرارية الاستفادة من حق مكتسب منذ الاستقلال ليس بواسطة السلطات الإدارية الترابية والأمنية كما يجري الآن خشية تحرك جماهيري، وإنما بقوة القانون وتحصين هذا الحق بنصوص واضحة لا تقبل الجدل أو التأويل.
إن خطوة كهذه تتطلب في هذا الظرف الدقيق الذي تمر فيه البلاد قدرا كبيرا من الشجاعة في مباشرة تعديل أحكام الدستور المتعلقة بالتعليم ولو بالرجوع إلى الصيغة القديمة في دساتير المملكة الخمس السابقة، والتي تضمنها فصل كان يحمل دائما رقم 13 ومفادها أن "التربية والشغل حق للمواطنين على السواء".
إن مراجعة العديد من نصوص الدستور باتت أمرا ملحا في مواضيع عديدة أخرى من بينها ما يجري الحديث عنه همسا وجهرا عن وجود خلل وثغرات قانونية تعتري العديد من القوانين التنظيمية الصادرة استنادا على أحكام دستورية، إضافة إلى بعض الالتزامات الدولية للدولة المغربية.
تكفي الإشارة على سبيل المثال في هذا السياق إلى التصريحات الأخيرة لرئيس مجلس المنافسة (انظر جريدة المساء عدد 3153) عن تعطيل مجلسه باعتباره إحدى الهيئات المكلفة بضمان الحكامة الجيدة عن القيام بدوره وفق منطوق الفصل 166، وحديثه عن وجود تنازع في الاختصاصات جعل المجلس مشلولا إزاء أهم قضية تشغل بال الرأي العام، وهي أسعار المحروقات المنخفضة عالميا المرتفعة محليا.
وغير خاف على أحد أن المغرب التزم دوليا بالتفاوض حول منطقة للحكم الذاتي في أقاليمه الجنوبية، وانتزع اعترافا دوليا لهذا الاقتراح بكونه جدي وذا مصداقية. ولا شك أن دسترة هذا التوجه بالإشارة العامة إلى منطقة الحكم الذاتي كشكل من أشكال الجماعات الترابية سيضفي المزيد من المصداقية على الطرح المغربي.
من كل ما سبق تبدو مراجعة الدستور لتوضيح المزيد من المعطيات وتأكيد العديد من الطروحات مرغوبة ومطلوبة في آن واحد. وليس عيبا البتة مباشرتها، لأن النصوص القانونية الجيدة هي المواكبة لتطورات الواقع والمعبرة عما يروج فيه، ناهيك عن أن التجربة الدستورية المغربية تميزت دائما بالمرونة القصوى.
ففي ظرف 49 سنة من 1962 إلى 2011 عرفت البلاد ست دساتير عمر أطولها 20 سنة من 1972 إلى 1992، علما بأنه لم يدخل حيز التنفيذ إلا سنة 1977 أي أن عمره الفعلي 15 سنة فقط تماما كدستور 1996. وهناك دستور ولد ميتا هو دستور 1970 الذي لم يدخل قط حيز التنفيذ، فيما أول دستور للبلاد لم يعش سوى 3 سنوات، وتم إنهاء مفعوله بإعلان حالة الاستثناء إثر أحداث 23 مارس 1965.
لقد جاء في الخطاب الملكي ليوم 17 يونيو 2011 بمناسبة تقديم مشروع الدستور الحالي للاستفتاء ما يلي: "إن أي دستور مهما بلغ من الكمال، فإنه ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لقيام مؤسسات ديمقراطية تتطلب إصلاحات وتأهيلا سياسيا ينهض بهما كل الفاعلين لتحقيق طموحنا الجماعي، ألا وهو النهوض بالتنمية وتوفي أسباب العيش الكريم للمواطنين". هذه العبارة تشكل في آن واحد دافعا لمراجعة الدستور، ونبراسا لها، لأن ما نراه على أرض الواقع من مناكفات ومناورات ومساومات لا ينهض بتنمية، ولا يوفر أسباب حياة كريمة.