20 سنة مرت على تصنيف معالم مكناس الأثرية كتراث إنساني من طرف منظمة اليونسكو، وهي محطة مفصلية أساسية للاحتفاء طبعا بهذا التصنيف الذي أعاد الاعتبار لهذه المدينة العتيقة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ والتي تضم أكثر من 10 في المائة من المعالم الأثرية ببلادنا، لكنها تشكل أيضا محطة للوقوف عند أبرز الأعطاب التي تهم صيانة هذا الموروث الإنساني والترويج له كي يشكل قاعدة صلبة لتحقيق تنمية شاملة للقطاع السياحي بمدينة مكناس ونواحيها تشكل السياحة الثقافية أحد أعمدتها الأساسية، على غرار النهضة السياحية التي حققتها مدينة مراكش، علما أن مكناس التي شكلت في القرون السابقة عاصمة للمملكة تتوفر على جميع المؤهلات التي تجعل منها قطبا للسياحة الثقافية. فماذا استفادة عاصمة المولى اسماعيل طيلة 20 سنة من تصنيفها كتراث عالمي؟
سؤال حارق حملته "أنفاس بريس" إلى عدد من الفعاليات بالعاصمة الإسماعيلية، في محاولة لتفسير سبب تراجع إشعاع المدينة الحضاري بمختلف أرجاء الوطن وكذا بالخارج، فكان الجواب لدى عدد من الفعاليات التي التقتها "أنفاس بريس" بأن مكناس للأسف مازالت لم تبرح مكانها بعد مرور 20 سنة على تصنيفها كتراث عالمي في غياب أي أثر ملموس يهم صيانة حقيقية لمعالمها الأثرية والترويج لها على المستوى الداخلي أو الخارجي، فترميم المعالم التاريخية والأسوار الإسماعيلية التي يصل طولها إلى 24 كلم عادة ما يطبعه الارتجال وعدم احترام المواصفات الضرورية في عمليات الترميم، ولعل هذا ما يفسر تساقط أجزاء من الأسوار التاريخية والمعالم الأثرية بالمدينة من حين لآخر، كما أن عمليات الترميم تركز فقط على الواجهات مع إهمال المواقع الأثرية البعيدة عن مركز المدينة، وهو نفس الرأي الذي يؤيده عبد الله مشكور (فاعل جمعوي وحقوقي).
أما ساحة الهديم التي تملك كل المقومات لتضاهي جامع الفنا بمراكش من حيث السمعة والصيت، فتعاني من حالة من الإهمال، والذي يبدو واضحا من خلال التسربات المائية على الأسوار الإسماعيلية المحيطة بها والفوضى العارمة بسبب استيلاء الباعة المتجولين والمقاهي على أجزاء هامة من مساحتها، والذي امتد ليشمل مدخل متحف رياض الجامعي، ليبقى هامش ضيق فقط أمام بعض رواد فن الحلقة وباعة الأعشاب الطبية، وطغيان الهاجس التجاري والذي أفقد ساحة الهديم التاريخية رونقها الثقافي والحضاري. فمن المسؤول؟ الكل مسؤول: وزارة الثقافة، وزارة السياحة، الجماعات الترابية.. بل حتى المواطن الذي يتحول أحيانا الى أداة لتخريب المعالم الأثرية وهو ما يكشف حاجتنا الى الإعتماد على التربية، يجيبنا عبد الله مشكور بنبرة لا تخلو من الأسف والحسرة على حالة الإهمال التي تعانيها معالم مكناس قبل أن يردف قائلا "للأسف فشلنا في تسويق المنتوج الثقافي المكناسي الهام على الصعيد العالمي.."
في نفس السياق يرى بعض المهتمين أن مكناس سجلت تراجعا مس جماليتها وجوانبها الثقافية مقارنة مع سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي رغم تصنيفها كتراث عالمي.. هكذا تم إقبار العديد من السقايات التي ظلت تتميز بها المدينة العتيقة، كما تم ضرب مداراتها السياحية في العمق بسبب إهمال عدد من المواقع الأثرية من جهة، ومن جهة ثانية بسبب احتلال الباعة المتجولين لمداخل المدينة العتيقة، وهو ما حرم السياح من الاستمتاع بجمالية المدار السياحي الذي يربط باب عيسي بباب بردعاين، مرورا بالمدرسة البوعنانية التي تعرف أيضا بالمدرسة الفيلالية وبمدرسة القاضي (شيدت في عهد المرينيين) إلى الناحية الشرقية من الجامع الأعظم الذي شيده المرابطون، ومسجد النجارين أقدم مساجد مدينة مكناس، ومتحف رياض الجامعي الذي يعد معرضا دائما للفنون والحرف التقليدية (شيده الوزير الصدر بن محمد العربي الجامعي الذي عاصر السلطان الحسن الأول)، فهذا المدار السياحي الزاخر بالمعالم الأثرية أضحى الآن عرضة للإهمال والاحتلال من قبل الباعة المتجولين.ناهيك عن انهيار العديد من الدور القديمة، وبطئ عملية ترميم المساجد القديمة التي تم إغلاقها من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ومنها المسجد الأعظم الذي تم إغلاقه مؤخرا.. فمنذ انهيار مسجد بردعاين بمكناس عام 2006 لم يتم ترميم سوى مسجدين (مسجد بردعاين ومسجد الزيتونة)، علما أن مساجد مكناس تعتبر معالم أثرية تؤرخ لحقب مهمة من تاريخ البلاد، إذ كان له دور هام في نشر التدين المغربي القائم على الاعتدال ونشر العلوم الشرعية، فجامع الروى المغلق الآن كان مقصد طلاب علوم القرآن القادمين من مناطق بعيدة بالمغرب. فإهمال هذه المعالم التاريخية، حسب علال المدرسي رئيس جمعية تجار المدينة العتيقة، أدى الى تراجع القطاع السياحي بالمدينة، وبالتالي فالسبيل الوحيد لإعادة الاعتبار للمدينة العتيقة هو إزاحة الباعة المتجولين لضمان تجول السياح بأريحية داخل المدارات السياحية، ولابد أيضا من إعادة هيكلة واجهات جميع الأسواق بالمدينة القديمة على غرار ما تم إنجازه بقبة السوق وترميم المعالم السياحية لتحقيق نهضة سياحية واقتصادية بمدينة مكناس.
بالمقابل يرى محمد الشكدالي، نائب رئيس بلدية مكناس، أن الاعتمادات المخصصة لترميم الأسوار التاريخية بمدينة مكناس لا يمكن تصورها، فبلدية مكناس ترصد لوحدها ما يقارب 30 مليون سنويا لترميم الأسوار التاريخية، وإذا تم استحضار الجهود التي يبذلها باقي المتدخلين فإن مجموع ما يتم تخصيصه لترميم المواقع الأثرية يصل أحيانا الى 120 مليون درهم سنويا، مبديا أسفه لتعدد المتدخلين وغياب التنسيق بين الأطراف المتدخلة، وكذا تفاؤله باتخاذ المجلس الإداري لوكالة إنقاذ فاس قراره بتوسيع نطاق تدخل وكالة إنقاذ فاس ليشمل مدينة مكناس، حيث يرتقب أن تتم خلال دورة استثنائية ستعقد في 15 دجنبر الجاري المصادقة على اتفاقية مع وكالة إنقاذ فاس. وأشار الشكدالي أن مجلس بلدية مكناس فضل التعامل وكالة إنقاذ فاس، بل خاض تجربة مستقلة في هذا الإطار بالنظر للتجربة التي راكمتها وكالة إنقاذ فاس.
وفيما يخص فشل مدينة مكناس في الترويج لساحة الهديم والتي لا تقل شأنا وقيمة عن ساحة الفنا بمراكش، أشار الشكدالي أن ساحة الهديم كانت لها وظيفة محددة، لكنها تحولت، للأسف، إلى مسرح للتجارب الفاشلة.. موضحا أن من بين الأمور التي سيتم التطرق لها بتنسيق مع وكالة إنقاذ فاس ووزارة الثقافة والشركة المغربية للهندسة السياحية ومجموعة من المتدخلين مستقبلا، هو منح وظائف محددة لمعالم أثرية في إطار المدارات السياحية. فترميم المواقع الأثرية، يضيف الشكدالي، دون منحها وظائف محددة، يتطلب إجراء الترميمات كل سنة وهو ما يشكل إهدارا للمال العام. وأوضح الشكدالي أن جماعة مكناس، ومن خلال المهرجان الذي نظمته للاحتفاء بذكرى 20 سنة على تصنيف مكناس كتراث عالمي، حاولت الإجابة عن جملة من الإشكالات التي تهم السياحة الثقافية بالمدينة والبحث عن مخارج في أفق وضع استراتيجيات للتدخل ووضع أولويات تدخل كل طرف وكيفية تدخله، فالإشكال الذي نواجهه هو وجود أولويات لدى كل طرف على حدى، فهناك من يعتبر ملف الدور الآيلة للسقوط من الأولويات لأن الأمر يتعلق بحياة الناس، وهناك من يعتبر المساجد العتيقة ملفا ذا أولوية، وهناك من يتحدث عن مشكل الباعة المتجولين داخل المدينة القديمة، وآخر عن التراث اللامادي، وهناك من يعطي أولوية لترميم الأسوار التاريخية.. ويستحيل الاهتمام بهذه الأولويات ككل لأن الاعتماد المخصصة لهذا المجال تبقى غير كافية، لهذا ينبغي إعداد مشاريع للبحث عن التمويل الذي يمكننا الحصول عليه، لكن لابد من توفرنا على استراتيجية واضحة المعالم يتم من خلال الاتفاق حول الأولويات بمشاركة جميع الأطراف.