وبعد مرور أزيد من شهر ونصف على تكليفه، ما يزال الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، رئيس الحكومة المنتهية ولايتها يجري مشاوراته السياسية لتشكيل ائتلاف حكومي يمكنه تأمين أغلبية نيابية، محاولا استعمال جميع المعادلات الحسابية الممكنة، ضاربا عرض الحائط بأي تقارب إيديولوجي أو حتى أرضية التعاون على برنامج مشترك، همه الوحيد تأمين العدد الكافي (198) من النواب الداعمين لائتلافه. وخلال هذه المدة التي انقضت منذ تاريخ تكليفه شهدت الساحة السياسية والاجتماعية المغربية أحداثا بعضها كان خطيرا ضاعف من منسوب الاحتقان الاجتماعي. ولا يختلف اثنان على أن الطريقة البشعة لمقتل بائع السمك محسن فكري رحمه الله في الحسيمة كانت أبرز الأحداث التي سحبت البساط من أي نشاط سياسي آخر في البلاد، سيما بعد أن أثارت تلك الطريقة موجة تظاهرات تضامنية عارمة عمت أرجاء المملكة، ولم تستطع كل محاولات الاحتواء إخمادها وحصرها في رقعة جغرافية معينة. وطبيعي في هذا السياق أن يتوارى موضوع تشكيل الحكومة إلى الخلف، وأن يفقد أي أهمية كان يكتسيها، وأي شهية لمتابعته. وقد زاد الطين بلة التسريبات التي قام بها البعض حول الاتصالات الجارية، التي أعطت الانطباع بأننا إزاء مناورات وليس مشاورات ؛ وذلك رغم المحاولات الحثيثة من بعض السياسيين وعدد من الإعلاميين لإعادة الموضوع إلى سلم أولويات المواطنين. ولكن هذه الأولوية ستعود تدريجيا بعد خطاب جلالة الملك في الذكرى 41 للمسيرة الخضراء، الذي أحدث رجة قوية في الساحة السياسية الداخلية عندما : 1/ أكد حاجة البلاد إلى حكومة جادة ومسؤولة، بعيدة عن الحسابات المصلحية الضيقة، وإرضاء الرغبات الحزبية، وعن منطق تقسيم الغنيمة الانتخابية. 2/ انتقد ضمنيا التجربة الحكومية السابقة بالتركيز على تشكيل حكومة تتجاوز الصعوبات التي خلفتها السنوات الماضية، فيما يخص الوفاء بالتزامات المغرب مع شركائه. 3/ تعهد بتشكيل حكومة وفق منهجية صارمة مهيكلة ببرامج وأولويات وبكفاءات مؤهلة، وبعدم التسامح مع أي محاولة للخروج عن تلك المعايير. ورغم أن الخطاب الملكي عبر عن تفهم عميق لنبض الشارع المغربي في حديثه عن توق المغاربة إلى حكومة في مستوى المرحلة الراهنة ؛ فإن ما يرشح عن الاتصالات الحزبية حول تشكيل الحكومة يشير إلى عدم سمو القيادات الحزبية إلى هذا المستوى، واستمرارها في منطق توزيع الكعكة المرتكز على الابتزاز والابتزاز المتبادل، الذي يبدو أنها لا تعرف غيره. إن منطق اقتسام الكعكة هذا رسخ لدى مختلف شرائح المجتمع المغربي القناعة بأن الحياة السياسية واللعبة الانتخابية وفق القواعد الحالية غير مؤهلة إطلاقا لإفراز حكومة كفاءات قادرة على تجاوز الأزمات وإيجاد الحلول الناجعة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة في البلاد، والتي تزداد استفحالا يوما بعد يوم مع تضاعف منسوب الاحتقان الاجتماعي، وتنامي التذمر، وتنقل البؤر المحلية لانفجاره. في سياق وضع كهذا، ومخافة وقوع ما لا يحمد عقباه، فإن الأمل يكمن في تشكيل حكومة تكون لديها القدرة والشجاعة فقط على إدارة الأزمة بأقل قدر من الكلفة الاجتماعية. فهل سينجح رئيس الحكومة المكلف في كسب هذا الرهان أم سيظل أسير المهاترات التي استنزفته طيلة الخمس سنوات الفارطة، وجعلته رئيس حكومة موقوفة التنفيذ ؟ من الصعب إصدار حكم قطعي في هذا الاتجاه سيما وأن التصريحات المنسوبة للسيد رئيس الحكومة المكلف تعرف تضاربا كبيرا يتأرجح بين التشدد الذي يصل إلى حد التلويح بإعلان فشل المهمة، وبين المهادنة التي تفيد الاستعداد للرضوخ والانبطاح لما قد يكون بصدد التعرض له من ابتزازات أو مساومات. ولهذا من المنطقي انتظار تبلور التركيبة الحكومية المنتظرة، ومعرفة طبيعة مكوناتها، ومدى التنازلات المقدمة من أطرافها المحتملة، كما سيعكسها البرنامج المشترك لنيل الثقة. إن أحسن ما في "أزمة" تشكيل الحكومة التي يعيشها المغرب الآن هي أنها عبرت بوضوح عن ضيق هوامش المناورة لدى كافة القوى والمؤسسات السياسية، التي اضطرت تباعا إلى الظهور بوجوهها الحقيقية سافرة دون أية مساحيق ؛ الأمر الذي كشف محدودية سقف التوقعات من العديد من الإصلاحات المتخذة، وسيدفع لا محالة في اتجاه ضرورة العمل من أجل إخراج البلاد من مرحلة الترقب، التي تبدو مكلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.