جلبيرالأشقر: النظام الملكي المغربي تعامل مع الإنتفاضة بذكاء أكبر من سائر الأنظمة العربية

جلبيرالأشقر: النظام الملكي المغربي تعامل مع الإنتفاضة بذكاء أكبر من سائر الأنظمة العربية

 أجرت حركة " أنفاس الديمقراطية " حوارا مع جلبير الأشقر، أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن وأحد أبرز الباحثين في الوقت الراهن في العلوم السياسية و العلاقات الدولية خصوصا بمنطقة شمال افريقيا و الشرق الأوسط، كما يعد أحد منظري اليسار التقدمي. في حواره توقف جيلبيرعند تعامل النظام الملكي بالمغرب مع حراك 20 فبراير بذكاء أكبر من سائر أنظمة المنطقة، وذلك أولاً لأنه كان قد أتاح درجة من الليبرالية السياسية تسمح بالتنفيس عن الكبت الجماهيري أكثر مما في الدول الأخرى، وثانياً لأنه قام باحتواء الطاقة الانفجارية من خلال الإتيان بحزب العدالة والتنمية المرادف للإخوان المسلمين إلى الحكومة مما أدّى إلى شقّ صفوف حركة 20 فبراير، مشيرا الى أن المغرب في إطار السيرورة الإقليمية قدم أوّل تجربة ائتلافية بين النظام القديم والمعارضة الأصولية الدينية، وهو ما تشجّع عليه واشنطن كمخرج للأزمة. وفيما يلي نص الحوار :

 ++ حلّلتم وعلّقتم مطوّلا على ما يسمى "الثورات العربية" خصوصا في كتابكم "الشعب يريد" وفي مقالات عديدة. ما نظرتكم اليوم إلى التطورات بعد 6 سنوات على انطلاق هذا الحراك؟

لقد شرحت نظرتي لتطورات الأوضاع بالمنطقة الناطقة بالعربية في كتابي الجديد الذي صدر قبل بضعة شهور تحت عنوان "انتكاسة الانتفاضة العربية : أعراضٌ مرَضية". هذا العنوان يلخّص موقفي. فنحن نعيش انتكاسة في الأوضاع العربية بكل وضوح، وقد أكّدت منذ بداية الحراك سنة 2011 على أننا أمام سيرورة ثورية طويلة الأمد ستطول سنوات عديدة، بل عقود. كان ذلك في مقابل القراءة التي سادت، خصوصاً في الإعلام الغربيّ، والتي أفادت بأنّ المنطقة العربية دخلت مرحلةً من «الانتقالات نحو الديمقراطية» قد تستغرق بضعة أسابيع أو أشهر في كلّ بلدٍ وتبقى سلميّةً نسبياً، تبشّر بعصرٍ إقليميٍّ جديدٍ من الديمقراطيّة الانتخابيّة. كان هناك اقتناعٌ بأن النمط الذي بدأ في تونس ومن بعدها مصر سينتشر في معظم دول المنطقة على طريقة لعبة الدومينو، بشكلٍ مشابهٍ لما شهدته أوروبا الشرقيّة في فترة 1989-1991. وقد تلخّصت هذه الرؤية بتسمية «الربيع العربيّ» التي انتشرتبسرعة وباتت التسمية المعتمدة آنذاك. وهي رؤيةٌ استندت إلى تصوّر يفيد بأن «الربيع» أتى نتيجة تحوّلٍ ثقافيوسياسي حمله جيلٌ جديدٌ متّصلٌ بالثقافة العالمية بفضل تقنيات المعلومات والتواصل الجديدة. تبعاً لهذا التصوّر، كانت الانتفاضات أساساً، إن لم يكن حصريّاً، صراعاً من أجل الحريّة السياسيّة والديمقراطيّة.

هذه القراءة كانت مبنية على أوهام سرعان ما تبدّدت.فماتشهده المنطقة في الحقيقة هو عملية تاريخية معقّدة أفرزتها أزمة اجتماعية حادة ناتجة عن انسداد آفاق التنمية وارتفاع معدلات البطالة خصوصاً لدى الشباب.وستمرّحتماً بالكثير من المدّوالجزر ولا يمكن أن تنتهي سوى بتغييرات بنيوبة جذريةتصطدم بالضرورة بأنظمة سلطوية شرسة لا تسمح بالتغيير السلمي.

++ في حوار لكم نُشر على موقع ميديابارت قلتم في هذا الصدد : "في الدول حيث المسألة السلطوية لا تُطرح بنفس الحدة وحيث النظام أكثر ليبرالية وتسامحا مع التعدّد السياسي –كما الحال في المغرب - نجد أن الحراك يقوم على قضايا اجتماعية ولكنه لم يكتسب الزخم الانفجاري الذي وصلنا إليه سريعا في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا". كيف تنظرون للوضع في المغرب خمس سنوات بعد التطورات التي حصلت سنة 2011؟

النظام الملكي في المغرب تعامل مع الانتفاضة بذكاء أكبر من سائر أنظمة المنطقة، وذلك أولاً لأنه كان قد أتاح درجة من الليبرالية السياسية تسمح بالتنفيس عن الكبت الجماهيري أكثر مما في الدول الأخرى، وثانياً لأنهقام باحتواء الطاقة الانفجارية من خلال الإتيان بحزب العدالة والتنمية المرادف للإخوان المسلمين إلى الحكومةمما أدّى إلى شقّ صفوف حركة 20 فبراير، وثالثاً لأنه قام بتقديم إصلاحات سياسية واقتصادية لامتصاص النقمة.

لقد قدّم المغرب في السيرورة الإقليمية أوّل تجربة ائتلافية بين النظام القديم والمعارضة الأصولية الدينية، وهو ما تشجّع عليه واشنطن كمخرج للأزمة. وكانت التجربة الثانية في تونس مع الحكومة الائتلافية التي جمعت رجال النظام القديم وحركة النهضة. وهناك مساع حثيثة في ليبيا وسوريا لايجاد مخارج عبر الصيغة نفسها بتشجيع من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وذللك بغية الحفاظ على الأنظمة القديمة من خلال تعاونها مع المعارضات الرجعية.

من منطلق تقدّمي، أرى أن التسويات الحكومية بين النظام القديم والمعارضة الدينية عبر ائتلافات أفضل بالتأكيد من التطاحن والصدام بينهما على طريقة سوريا وليبيا، وهو صدام يهمّش القوى التقدّمية. فليس هناك فرقٌ نوعي في الرؤى الاقتصادية والاجتماعية بين النظام القديم والمعارضة الدينية. في منح الائتلاف بينهما فرصة أفضل للقوى التقدّمية والشبابية لبناء بديل يقوم على المطالب الاجتماعية والحريات وتحرر النساء، وهذا البديل شرط أساسي للخروج من الأزمة العميقة التي تميّز الأوضاع العربية والتي تشهد استمراراً وتعمّقاً،بلتعفّناً.

فالمنطقة الناطقة بالعربية لم ولن تعرف الاستقرار على المدى المتوسط والبعيد في ظلّ الانتكاسة التي عقبت الانتفاضة منذ سنة 2013، بل سوف تشهد انتفاضات جديدة وحروباً أخرى حتى ظهور مخرج للأزمة لا يمكن أن يتوفّرسوى من خلال بدائل تقدّمية تحقّق تغييراً جذرياً في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كافة دول المنطقة.وبغياب ذلك سنشهد المزيد من الكوارث الإنسانية كما شهدنا في سوريا وليبيا واليمن.ومادامت القوى التقدّمية عاجزة عن تشكيل بدائل قوية وحقيقية سنبقى في دوّامة الأزمات.

++ كنتم قد تأسفتم قبل حين على كون الولايات المتحدة لم تزوّد المعارضة السورية بمعدّات عسكرية دفاعية وأن الموقف الأمريكي كان متردداً. هل تعتقدون أن الطريق إلى الديمقراطية يمكن أن يمرّ عبر الدعم العسكري لقوة خارجية؟ ألا تعتقدون أن أصل الحرب الأهلية في سوريا يكمن في التدخل الأجنبي لأطراف ذات مصالح متناقضة؟

أصل الحرب في سوريا هو النظام السوري الذي اختار القمع الدموي للانتفاضة،وتكفي المقارنة في هذا الصدد بين التعامل مع الحراك في كل من المغرب وسوريا. لقد تمنّيت تزويد المعارضة السورية بأسلحة دفاعية من أي طرف أتت إذ أن الشعب السوري كان مهدداً وقد استعمل النظام سلاح الجوّ في تدمير المدن وقتل مئات الالاف وتشريد الملايين من السوريين. فلو توفّرت دفاعات جوّية لدى المعارضة السورية لكانت الخسائر أقل بكثير. ثم لنكنْ موضوعيين، فأهمّ تدخّل خارجي على الأرض في سورياهو تدخّل إيران وروسيا دعماً للنظام. أما واشنطن فأهم ما قامت به هو منع حلفائها الإقليميين من إمداد المعارضة السورية بالدفاعات الجوّية، وبذلك تكون واشنطن متواطئة مع النظام السوري ومع إيران وروسيا في قتل المواطنين السوريين وتشريدهم وتهجيرهم وتدمير مدنهم وقراهم. ونرى اليوم الرئيس الأمريكي المنتخَب دونالد ترامب يعلن استعداده للتعاون مع بشّار الأسد باعتباره أهون الشرور في الساحة السورية.

في سوريا كما في باقي دول المنطقة،إحدى تعقيدات الوضع هي أنه لا ينطوي على الثنائيّة الكلاسيكيّة بين الثورة والثورة المضادّة. بدل ذلك لدينا مثلّث قوى : من جهة، قطبٌ ثوريّ قوامه كتلة من القوى الاجتماعيّة والسياسيّة تجسّد آمال العمّال والشباب والنساء الذين انتفضوا ضد النظام القديم، طامحين إلى مجتمعٍ تقدميٍّ مختلف. وفي الجهة الأخرى،معسكران للثورة المضادّة وليس معسكراً واحداً : هناك أولاً، معسكر النظام القديم، أي الثورة المضادّة التقليديّة، كما توجد قوى رجعيّة ذات طابعٍ دينيّ، رعتها أساساً الأنظمة لتشكّل ثقلاً موازناً لليسار، لكنها نمت وانقلبت ضدّ هذه الأنظمة. وينتمي المعسكران إلى الثورة المضادّة، بمعنى أنّ مصالحهما الأساسيّة وبرامجهما تصطدم بشكلٍ مباشرٍ مع آمال القطب الثوريّ الذي يناضل من أجل التغيير الاجتماعيّ والاقتصاديّ والديمقراطيّ.

++بخصوص إيران، هل تعتقدون أن النظام سيبعث برسائل الانفتاح لقبول معارضيه وأنه يستطيع تطبيع علاقاته بجيرانه؟ وبالتالي، كيف تنظرون لمستقبل الملَكيات النفطية بعد الاتفاق الأمريكي - الإيراني؟

الرئيس الأمريكي المنتخَب أعلن إرادته إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وسنرى ماذاسيفعل. لم يقبل الجناح المتشدّد داخل إيران بالاتفاق النووي سوى على مضض وبسبب اشتداد الأزمة الاقتصادية الداخلية.أما واشنطن فقد راهنت على تقوية الجناح الاصلاحي في إيران على أمل أن يساهم في تحقيق انفراج في أوضاع المنطقة، لكن ذلك لم يحصل. ولو حقّق ترامب وعوده الانتخابيةسيقوى الجناح المتشدّد في النظام الايراني ويستمر في تصعيد هجماته ومساعيه التوسّعية المتزايدة حجماً وشكلاً وعلانية في العراق وسوريا واليمن ولبنان والخليج...

++ في سياق إعادة ترتيب المنطقة، ما هو مستقبل القضية الفلسطينية في نظركم؟ هل مازال حلّ الدولتين قائماً؟

لم يكن حلّ الدولتين قائماً بالأصل حتى نتساءل هل يبقى. إنه حلّ وهمي. لن تقبل الدولة الصهيونية بدولة فلسطينية مستقلة إلى جانبها. في أوسلو، كان الأمر يتعلّق بإنشاء دويلة خاضعة وتابعة، وحتى هذا السقف تقوم حكومة نتانياهو بمساع حثيثة في اتجاه تقويضه والضمّ التدريجي للضفة الغربية من خلال توسيع المستوطنات.

لن يكون هناك حلّ سياسي للنزاع إلا بحدوث تغيير جذري في موازين القوى إقليمياً ودولياً، وهذا شيء مستبعد في الوقت الراهن. فالإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة ترامب سوف تصطفّ إلى جانب الدولة الصهيونية أكثر بعد مما اصطفّت الإدارات السابقة، وقد أعلن ترامب نيّته الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل وبرّر توسيع المستوطنات الصهيونية. إنمساعي السلطة الفلسطينية واهية تماماً، وليس أمام الشعب الفلسطينيمن خيار سوى العودة إلى النضال ومقاومة الاحتلال بحيث يستعيد زخم انتفاضة سنة 1988 المجيدة.

++ كنتم قد انتقدتم كثيراً اليسار في المنطقة وأمراضه وعدم قدرته على إقناع الشعوب. في نفس الوقت تعتبرون أن هذا اليسار يمثل الأمل ومستقبل التغيير. كيف تفسّرون هذا التناقض؟ يوجد أمل في اليسار الجديد بأوروبا خصوصاً بعد الاختراقات التي حققتها أحزاب كسيريزا في اليونان وبوديموس في اسبانيا وحزب الشعوب الديمقراطي في تركيا ... لكن هذا الأمل سرعان ما خفّ حجمه. كيف تفسّرون ذلك؟ ثم بماذا يمكن أن تنصحوا حركة ناشئة من اليسار كحركة أنفاس الديمقراطية في المغرب؟

نحن أمام منعطف تاريخي يجب أن يُنظر إليه بالتالي بمنظور تاريخي. ففي أواخر القرن العشرين كان سقوط حائط برلين بمثابة نهاية اليسار التقليدي وإعلان لإفلاسه التاريخي.وبما أن ذلك اليسار كان يعتمد على دولة عظمى هي الاتحاد السوفياتي، خلق سقوط هذا الأخير فراغاً ضخماً وفقداناً لمصداقية البديل الاشتراكي بما أدّى إلى صعوبة ميلاد بديل ويسار جديدين.

مع ذلك هناك علامات بدأت مع حركة الزاباطيين في المكسيك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بقليل واستمرت عبر المنتديات الاجتماعية العالمية وصعود بعض القوى التقدّمية في أمريكا اللاتينية. كما أن هناك حاليا ظواهر يسارية جديدة في إسبانيا واليونان وتركيا كما ذكرتم. بل شهدنا أيضا وصول اليسار الجذري إلى رئاسة حزب العمّال البريطاني ومفاجأة ساندرز الاشتراكي المُعلن في سباق الرئاسة الأمريكية وكان من الممكن أن يتغلّب على ترامب لو فازبالترشيحمن قِبَل الحزب الديمقراطي.

كل هذه الظواهر لم تحقق انتصارات حتى الآن، لكنها تراكمات تشكل منحىً تاريخياً ليسار جديد يختلف عن يسار القرن العشرين، يسار يتبنّى أطروحات جديدة ديمقراطية أفقية ويجيد استعمال تكنولوجيات التواصل الحديثة.هناك أمل كبير في ظهور هذا البديل التقدّمي، فالنيولبرالية تحتضر اليوم. وقد تكلمت عن "أعراض مرَضية" اقتباساً من فكرة كتبهاغرامشي سنة 1930 وتقول إنه عندما يحتضر النظام القديم ويكون عسيراً على النظام الجديد أن يولد، تظهر أعراضٌ مرَضية.

لست في موقع أن أقدّم نصائح لكل بلد وحركة، لكنّني أقول بوجه عام أن المطلوب هو تشكيل قوى ائتلافية تقدّمية وشبابية قادرة على أن تشقّ طريقاً خاصاً بها وأن تتفادى التأرجح بين الارتماء في حضن المعارضة الدينية والتواطؤ مع النظام القديم كما حصل في منطقتنا حتى الآن. على القوى التقدّمية أن تخرج من هذا القفص وتبني بديلاً جذرياً عن الطرفين، النظام القديم والمعارضة الدينية.