لا تستوي أية قراءة ملائمة لما يجري بجهة الريف منذ مصرع بائع السمك محسن فكري دون وضع الأحداث في سياق ما يعتبر هناك «ظلما تاريخيا» لحق بالمنطقة منذ الاستقلال إلى ربيع اليوم. ومن ثم، ورغم أهمية المقاربة التي اعتمدتها الدولة بأبعادها التنموية والمهيكلة، لم تستطع أن تطرد "الحكَرة" من وعي ساكنة مدن الريف. ما يعني أن النار التي أطفأتها تلك الأوراش الكبرى لا تزال تغطى على جمر متقد يكفي أن يندلع حدث اجتماعي بسيط لدفع النار إلى التأجج من جديد.
حين باشر شؤون الحكم، كان محمد السادس يعي أن ملفات عديدة لا تزال ترهن مستقبل المغرب. ولذلك قارب موضوع الريف ضمن مقاربة شاملة تنهض بشمال المغرب، وتعيد الاعتبار إلى الساكنة هناك، وتمسح آثار الغين الذي مسها منذ أحداث 1959، والتي عمقتها أحداث 1984. كان العنوان الكبير لهذه
المقاربة هو مصالحة الشمال في إطار عنوان عريض يمثل طي صفحة ماضي الانتهاكات بكل أبعادها الاجتماعية والإنسانية والسياسية والمجالية بهدف تجاوز عقدة الظلم التاريخي.
في هذا الإطار خصصت ميزانيات عالية وفتحت أوراش كبرى لفائدة الشمال تجاوزت 250 مليار درهم في السنوات 12 الماضية.
وكانت نتيجة هذا التعاطي تحقيق نهوض نسبي هام في مجال البنيات التحتية الكبرى بالشمال لا يمكن لأحد أن ينكره. ومع ذلك فالحقيقة الموضوعية تقر بأن الشمال ليس فقط العمارة والحجارة، ولكنه أساسا العمران بالمعنى الخلدوني للكلمة الذي يستهدف معيشة المواطنين وتحسين مستواهم المادي، والاهتمام كذلك بذاكرتهم الرمزية الجريحة، وبحاضرهم ومستقبلهم المعلق.
ولذلك لم تستطع الأوراش الكبرى المتحققة، والمرتقب تحققها في جبر الضرر المعنوي الذي تختزنه عقول وصدور المواطنين هناك. وفي تقديرنا فهذا الحيف المعنوي له عدة أوجه، منها:
أولا: مصادرة حق أبناء الشمال في التعبير السياسي الذي تحتكره نخبة "مخدومة" من الأعيان الذين يفترض فيهم منطقيا التعبير عن هموم المنطقة، ونقل هذه الهموم إلى أصحاب القرار في المركز من أجل حل المشاكل القائمة. لكن الذين حدث هو أن تلك النخبة تصبح جزءا من المشاكل لا طريقا للحلول.
ثانيا: لقد تبين أن إطلاق الأوراش الكبرى في مجال الموانئ والمطارات والطرق لم يكن سوى قرارات لم تمس الشمال العميق الذي تنخره البطالة، وتعمق من آثاره ظاهر الحيف الاجتماعي والاقتصادي الذي يمس باقي جهات المغرب من خلال انسداد آفاق الشغل، والتهديد بتفويت قطاعي الصحة والشغل، واستفحال سوء خدمات القضاء وتغول الإدارة. ولأن «الحكَرة» معطى مشاع بين كل جهات المملكة فمن الطبيعي أن ترى كل جهة أنها الأكثر حكرة من باقي الجهات كما أشرنا إلى ذلك في افتتاحية سابقة تسجل واقع التهميش في كل الجهات، لا في جهة واحدة.
أما والحال كذلك فلقد كان من الطبيعي أن يصرف أبناء الشمال غضبهم بأشكال ومظاهر مختلفة من بينها:
1ـ المضي في تصريف ذلك عبر استقالة بعض المواطنين من التفكير في الشأن العام، إما عن طريق تنامي ظاهرة التعاطي مع المخدرات، الوجه الآخر للعجز الاجتماعي. وإما عن طريق التحاق بعضهم بالخلايا الإرهابية انتقاما من الذات المحاصرة حيث اللوذ بالاستثمار «الجهادي» في الآخرة يحقق كل الرغبات ويحل كل الأعطاب المادية والنفسية والجنسية.
2ـ ولأن اليأس من الذات هو أيضا يأس من الآخر فلقد تشكل في المتخيل الشعبي للمواطنين هناك أن هناك علاقة عداء مع الدولة والمجتمع بكل امتدادهما المتمثلة بالأحزاب والنخبة. وهذا ما يفسر نفسيا وماديا التعلق لدى البعض بشعار «جمهورية الريف» عبر رفع أعلامها، ولدى البعض من خلال تخوين كل البنيات السياسية نظرا للمعطيات المشار إليها سابقا. من هنا مشروعية الاحتجاج المحتقن الذي يعلن عنه كلما انفجر هناك حادث ما تماما كما يحصل اليوم، لسبب بسيط وهو أن النفس المتأزمة يدها دائما على الزناد لإطلاق الرصاص نحو كل الاتجاهات. وحين يتم إطلاق الرصاص الرمزي ينسحب الساسة الانتهازيون والنخبة الحزبية الفاسدة من الميدان لتترك الدولة المغربية بتاريخها وهيبتها وحدها في مرمى النار. تماما كما لو لم تكن هناك انتخابات وصناديق اقتراع وأحزاب تتباهي بأنها تتمتع بشرعية الشعب. أو كما لو أن أبناء الشمال ليسوا من أبناء المغرب الذي أجرى استحقاق تشريعيا غير متنازع رسميا حول نتائجه.
أمام هذا الوضع خيارات محدودة تطرح على كاهل الدولة والنخب بمختلف روافدها من هذه الخيارات.
أولا: إعادة النظر في فكرة الاستثمار في منطقة الشمال عامة والريف خاصة، بمقاربة جديدة تعيد الاعتبار إلى مواطني الشمال، مقاربة لن تكون لها ثمار في المديين القريب والمتوسط ما لم يتم عقد مصالحة حقيقية تهدف إلى تحقيق الإنصاف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والمجالي.
ثانيا: إن الدولة التي اختارت تعاطيا تنمويا حقيقيا في المنطقة محتاجة إلى تعاطي تنموي آخر يتوجه نحو حقيقة الأوضاع العميقة للمواطنين. وهذا ما لن يتحقق دون تشجيع أبناء المنطقة على دخول زمن المقاولات الصغرى والمتوسطة، بما يعنيه ذلك من انخراط فعلي في مراكمة الرأسمال الفردي والجماعي بناء على شراكة بين الدولة والمجتمع.
ثالثا: لن يتحقق ذلك أيضا دون إقرار مسطرة لجبر الضرر المعنوي. وفي هذا الإطار ينبغي القطع مع إرث الظلم التاريخي، أي التصالح مع الذاكرة الشمالية. إن خطوة تسمية شارع باسم اليوسفي في طنجة لا يمكن أن يساويها في القوة والدلالة الرمزية إلا إقدام الدولة على نقل رفات الخطابي للدفن في موقع انتمائه الأصلي، وتسمية أكبر شوارع المدن هناك باسم زعيم الثورة الريفية ورفاقه، فالمغرب صار في موقع أقوى وطنيا وإقليميا ودوليا ليمضي بعيدا في تحصين الذاكرة الشمالية التي هي جزء من ذاكرة المغرب النضالي، وبدون عقد.
رابعا: جبر الضرر المعنوي يعني أيضا التشريع بتفعيل المؤسسة الدستورية المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وإطلاق اشعاعها اللغوي والثقافي، وتفعيل قرار ترسيم اللغة الأمازيغية في الفضاء العام. ولا يغيب عن رهان جبر الضرر المعنوي رفع حجاب الدولة عن دعم الهيات السياسية التي لا تمثيلية لها في الواقع سوى تمتعها المزعوم بدعم مركز القرار، في حينها تبث أنها في قطيعة تامة مع منطقة الشمال وأبنائها، بدليل أنها تغيب اليوم عن التأثير في الاحتجاجات الحالية حيث برزت قيادة شابة جديدة، وتلاشى الوهم التمثيلي لأعيان الشمال التقليدي.
إن الورش الحيوي الذي يحتاجه مغرب اليوم، المنفتح على المستقبل، وعلى العالم (انظر افتتاحية أسبوعية "الوطن الآن") هو الورش الذي يقر بأن جهة الشمال معزولة، والحاجة إلى فك عزلتها تمر عبر إطلاق أوطورت مادي ورمزي يعيد ربطها بشرايين الوطن.
(تفاصيل أوفر حول هذا الموضوع تقرأونه في ملف أسبوعية "الوطن الآن" المتواجد حاليا في كل الأكشاك)