رسائل اقتراع السابع من أكتوبر 2016 ليست معلقة في الهواء، ولكنها تحمل عناوين محددة لأشخاص وهيئات محددة ليقرؤوها، كل من موقعه وتطلعاته وطبيعة انشغالاته. وبالنسبة إلينا، نحن الذين اعتبرنا ذلك الاقتراع نزالا بين مشروع التنوير ومشروع الارتداد والنكوص، فيهمنا أن نعد ملف هذا العدد للتفكير في أسباب تراجع الصف الديمقراطي الحداثي، وفي دلالات الرسائل التي حملها الاقتراع.
وفي تصورنا أن أولى هذه الرسائل تفيد أن الكتلة الناخبة قد أشهرت الورقة الصفراء في وجه التقدميين وعموم الديمقراطيين المغاربة. ومدلول الورقة الصفراء أننا لسنا إزاء نهاية التاريخ، بل إنها تفيد أن الصف الديمقراطي قد مني موضوعيا بهزيمة شرسة، لكنها هزيمة شوط لا كل الأشواط، ومعناه بالواضح أن ما يجري في مغرب 2016 هو مجرد تمرين لمحطة 2021. ومعناه كذلك أن القوى التقدمية والديمقراطية مدعوة إلى مباشرة نقد ذاتي باتجاه البحث عن الحلول (لا أنصافها) لإشكالات الاشتغال التنظيمي والمذهبي تجاه الدولة والمجتمع، ولمعضلات الارتباط العضوي لهذ القوى بنبض الشارع المغربي، وبإيقاع حياته الخاصة، وبآماله وآلامه.
ومن زاوية هذا النقد نرى ضرورة أن تراجع هذه القوى فعلها وأثره في الواقع المعيش لأن التغيير الذي يحلم به المغاربة جميعا لا تصنعه الشعارات والبيانات والصالونات مهما كانت صادقة أو شاسعة. ولكنه ينطلق أساسا من جوهر الانغماس في قضايا المجتمع والمواطن الحقيقي ومد الجسور اليومية معه.
لم يعد مقبولا بعد رجة السابع من أكتوبر أن تظل القوى الديمقراطية رهينة فكر نخبوي مغلق على نفسه قبل الآخرين. ولهذه القوى أن تعترف من باب النقد الذاتي بأنها أهدرت الكثير من الوقت والمداد في قضايا هامشية لا علاقة لها بالانشغالات الحيوية للمغاربة، ونقصد بذلك الاستمرار في الاستمناء إزاء مستوى واحد فقط من النضال الحقوقي من قبيل قضايا مناهضة الإعدام والدفاع عن مفطري رمضان، وحق القبلات في الشارع العمومي، وحقوق المثليين التي هي قضايا قد تكون على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للبعض، لكنها لا يمكن أن تتصدر جدول الأولويات بالنسبة لواقع المغاربة هنا والآن. كما لم يعد مقبولا كذلك الانغماس في قضايا سياسوية ممعنة في التجريد بمعيار الظرفية الحالية من قبيل الحديث العام الفضفاض المزايد، وبدون وضوح إيديولوجي عن الملكية البرلمانية والمخزن واللجنة التأسيسية... إذ مهما كانت أهمية هذه القضايا الأساسية فلا يمكن أن تجعلنا في منأى عن الشارع المغربي الذي يظل معرضا لخطرين اثنين: الخطر الأصولي بتشكلاته المختلفة، بدءا من مشروع أخونة المجتمع والدولة، وانتهاء بالجماعات الإرهابية ذات الارتباطات الخارجية، وخطر اليأس الذين يجعل فئات واسعة من المواطنين مستسلمين للفراغ بلا مستقبل ولا هوية ولا مبرر وجود. أما الرسالة الثانية فتهم ضرورة وحدة قوى اليسار. وهي مهمة يستحيل تحققها ما لم يتخلص اليساريون وعموم الديمقراطيين من عقدة تاريخ اليسار، ومن أمراضه المزمنة في النفس منذ عقدي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. الوحدة هنا تعني استشعار الحاجة إلى مشروع يتوحد حوله كل حاملي فكر التغيير من أجل إعادة الأمل للمغاربة. وهناك أيضا سيفيد النقد الذاتي في تأكيد أن قوى اليسار لا تعرف عدوها الرئيسي. ولذلك تضفي على نفسها نوعا من الوثوقية التي لم تعد معترفا بها ضمن منطق الصراع الذي يعزل المعسكرات المتصارعة إلى قوتين اثنتين: قوى المستبدين والأصوليين من جهة، وقوى الديمقراطيين من جهة ثانية. ولذلك فالضرورة تقضي بأن يجدد اليسار تحالفه مع اليسار نفسه عبر برنامج محدد الأهداف ومضبوط المدى. أما الرسالة الثالثة فتفيد حاجة اليسار إلى مجتمع مدني صلب. وبهذا الخصوص ينبغي الاعتراف بأن هذا المجتمع كان في وقت ما ملكا لليسار بحقوقييه وكتابه ومبدعيه ومهندسيه ومختلف أطره... لكنه اليوم صار محتكرا فقط من طرف أصحاب فتاوى التكفير الأصوليين الذين اخترقوه، إما من جهة الدعوى الدينية وخطابات الظلام، أو بواسطة شراء ذمم الفقراء عبر قفة رمضان، وإقامة عشاء الميت.
هذه هي الرسائل التي ينبغي أن يتم تفهمها خلال التمرين الذي يبدأ اليوم ليعطي ثماره في اقتراع 2021. وهذه هي دلالات الورقة الصفراء التي تقترح على المعنيين بها إما تجاوز العطب واستئناف اللعب السياسي وإثبات الوجود، وإما نهاية اليسار التي تبقي المجال مفتوحا أمام كل مشاريع الارتداد والنكوص، وسرقة مستقبل المغاربة وهويتهم، وسرقة موروثهم الديني والمذهبي.
ملف هذا العدد فرصة للتفكير النقدي في واقع اليسار ومستقبله، وفي رهاناته التي لا تنفصل عن رهانات المغاربة وحقهم في العيش الكريم، وفي إقامة المجتمع الديمقراطي الحداثي.
(تفاصيل أوفر عن هذا الملف تقرؤونها في العدد الحالي من أسبوعية "الوطن الآن" الموجود بجميع الأكشاك)