عبادي يصحح مفاهيم معتقلي السلفية حول الجهاد وإمارة المؤمنين والافتاء

عبادي يصحح مفاهيم معتقلي السلفية حول الجهاد وإمارة المؤمنين والافتاء

صال أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، وجال، وهو يتحدث لساعتين إلا ربع، أمام العشرات من السجناء من بينهم معتقلي السلفية الجهادية، وانتزع منهم تصفيقات حارة، وهو يحدثهم عن قيم ومبادئ الإسلام ودورها في ترسيخ المواطنة، كان ذلك صباح يوم الجمعة 9 شتنبر 2016، بإصلاحية سلا، ولو خصص له منبر مسجدي، لأدينا وراءه صلاة الجمعة، كما عبر أحد النزلاء..
ضمن اليوم الثالث من فعاليات الجامعة الصيفية لنزلاء المؤسسات السجنية، التي تنظمها المندوبية العامة لإدارة السجناء وإعادة الإدماج، كان موعد النزلاء مع محاضرة تفاعلية تركت أثرا لها عند المعتقلين وخصوصا السلفيين، شملت أيضا أطر مندوبية السجون، حيث حرص محمد صالح التامك المندوب العام على تتبعها من بدايتها إلى نهايتها منصتا باهتمام أيضا لمداخلات السجناء..
ولأن، كما يقول الفقهاء، المناسبة شرط، فقد كانت مناسبتي موسم الحج وعيد الأضحى، منطلقا لمحاضرة عبادي، الذي ضاق به الكرسي المخصص له في المنصة، ليقف منتصبا، مالكا لاهتمام الحضور، وهو يجول بهم في دلالات الحج وعيد الأضحى، وكيف أن الطواف يفتل في حبل تقاسم الرؤى، ونبذ الفردانية والتعالي، ففي الطواف بلباس الإحرام يتخلى الحجاج عن مراكزهم الاجتماعية، يتضرعون لله عز وجل، ولايقف اي احد في مكانه، بل يطوفون بشكل دائري، حتى يكون كل حاج نظرة بانورامية عن هذا الركن في الحج، وكيف أنهم بعد الطواف يقفون بعرفات، تحقيقا لقوله عز وجل "لتعارفوا"، وكيف يكون الحجاج مثل أودية بيضاء متجهين لجبل عرفات، وكيف يتغير لباس الإحرام من بياض إلى رماد في نهاية المناسك في دلالة على الاستعداد للعودة للحياة الطبيعية بما هي هرج ومرج، وقبل ذلك يؤدي الحاج نسك الأضحية بما هي تضحية وامتثال للنداء الإلهي، وخلال العودة للديار، يأتي الحاج مفعما بالإيمان، لكي ينقاسمه مع أهله وأحبائه وجيرانه..

 

أحد معتقلي السلفية في تناظر مع عبادي


هو ركن الحج، بما يمثل من فعل جماعي تشاركي، اعتبره عبادي، مرتكزا ومنطلقا للمواطنة الحقة من خلال ابعاد هي، البعد الواقعي والبعد القيمي والبعد العلائقي والبعد الوظيفي والبعد التنظيمي، أبعاد كلها تكون شخصية المواطن، وتربطه بوطنه، وهو ما يتجسد في آيات القرآن الكريم، بما تشكله آيات الأخلاق والمبادئ 96 في المائة، مقارنة مع آيات المعاملات، ضاربا مثل من يتشبت بالمعاملات دون قيم مؤطرة، بمن يغمس في زيت المائدة، لا طعم لها ولا ذوق، فالدين (بتسكين الياء) كمعاملة تحدث عنها القرآن الكريم (فاكتبوه)، لكن اذا تم فصل هذه المعاملة المالية عن قيم الرحمة والتخفيف عن الآخر والتكافل، فإنها تصبح معاملة جافة لا روح فيها، لأنها القيم الأخلافية والأبعاد الروحية انتزعت منها.. فالارتباط بالأرض مهما كان قويا يحتاج لرابط علائقي نفسي، وضرب لذلك قصة الحاج المغربي في قديم الزمن عندما قرر زبارة ارض الشام قبل ارض الحجاز، لكنه مرض مرضا شديدا لم يعرف له سبب ولم ينفعه علاج الحكماء، فرأى مضيفه الشامي في منامه في إحدى الليالي مناديا يقول له "أطعمه الكسكسون"، لم يعرف الشامي تأويل رؤياه، فأخبر ضيفه المغربي وهو على فراش المرض، بأن القصد الكسكس المغربي، وبين له طريقة إعداده، ومع كل وجبة منه، كان الحاج المغربي يتماثل للشفاء، إلى أن شفي من حالته النفسية المتدهورة، نتيجة بعده عن وطنه..
من العلوم الدقيقة إلى العلوم الاجتماعية مرورا بالأمثلة الشعبية، وقبل ذلك بالآيات القرآنية وقصص السيرة النبوية، حرص الأمين العام على تقديم المفهوم الحقيقي للإسلام، بعيدا عن ما يفهم منه وينزل دمارا ووبالا على الوطن والأمة والإنسانية، تحدث عن الجراحات العشر التي يتم بواسطتها استقطاب شباب مغرر به للقيام بعمليات تفجيرية، في فهم مغلوط للدين، وكيف تفكك مفهوم الوطنية إلى ما يعرف بالقبيلة الرقمية العابرة للقارات والجنسيات، وكيف نجح بعض شيوخ التكفير في ما اعتبره زحلقة فكرية وفقهية، لم تراع كوارثها بشرا ولا حجرا ولا شجرا، دمار في دمار وتسابق على سفك الدماء بمبرر الخوف من الآخر، فصرفت تريليونات الدولارات من أجل تحقيق توازن للرعب، والبشرية في مجاعة وتلوث ومخاطر ..
"حاجتنا لتدين آمن من باب آمنهم من خوف، يقول عبادي مضيفا، بعيدا عن قيم الكراهية والإقصاء والتطرف، متمسكين بالخصوصية المغربية في التشبت بالإمامة العظمى لأمير المؤمنين، وهو النموذج التديني الذي أصبح يقتبس منه ويؤخذ منه"..
ولأن موضوع المحاضرة لامس ذوات السجناء، فقد تهاطلت الأسئلة والمداخلات، وصبت جلها في الربط بين المواطنة وتدبير الاختلاف، وغض الطرف عن عقوق بعض المخالفين للنظم المعمول بها، وكان لمعتقلي السلفية الجهادية نصيب من المداخلات تناول مطالب الحوار بين العلماء ومجموعة من الشباب الذي اخطأ الطريق، وكيف أن الوطن بمثابة الأب الذي لاينبغي ان يقسو على أبنائه العاقين، في ظروف اعتبرها احدهم تميزت بنتوءات وفتن فكرية وفقهية واجتهادات في غير محلها، وكيف ان عددا من الشباب كان ضحية فتاوي مضللة، مهدت الطريق نحو مسار خاطئ، وكيف ان هناك تطرف في الجهة الأخرى ممثلا في سب الذات الإلهية والاستهزاء من الثوابت الإسلامية التي هي ثوابت وطنية أيضا، والفرق بين الوطن والأمة..
وبمنهجية الطبيب المداوي، تجاوب عبادي مع مداخلات السجناء، معتبرا إياها تعبر عن تطور فكري وفقهي حاصل نتيجة برامج الإدماج في السجون، ونتيجة التطورات الميدانية في دول كانت تنعم بالأمن والأمان وتحولت اليوم لساحات خراب ودمار، تتناحر فيها المجموعات المسلحة بخلفية دينية، لأنهم فهموا النص القرآني على غير مقصوده، والإسلام منها براء، مشددا على تميز إصدار الفتوى في المغرب من إمارة المؤمنين، باعتباره حامي حمى الوطن والدين، في الوقت الذي تسعى بعض الدول جاهدة لكي تسير على نفس النهج..
كان النقاش والتفاعل إيجابيا بين المنصة والجمهور طوال ثلاث ساعات، تحدث فيها السجناء عن تجاربهم وتراجعاتهم الفقهية، ولاشك سيجري ماء كثير تحت جسر السجون، سجون كانت بالأمس القريب صماء بكماء، لتتحول اليوم لمنصة تواصل وانفتاح ستعزز الثقة المتبادلة بين مكوناتها ومحيطها.

التامك( الثاني يمينا) يتابع أشغال الجامعة الصيفية