يريد البعض أن يوظف "المواعظ" و"الدروس" و"الأجوبة الموجهة "، سواء ببعض المنابر أو القنوات والإذاعات والمواقع الإلكترونية وبالمناسبات الاجتماعية ليمرر وينشر الاتهامات والأحكام اللامسؤولة، وينشر سياسات وأفكار التطرف والكراهية في علاقة بالمفترى عليها "الفتوى"، والتي هي رأي، وأحيانا وجهة نظر، وتبيان حكم مسألة ما ليحولوها إلى "أفكار يجب الإيمان بها" و" دين خاص" يجعلونه تابعا لأهواء منظريهم الذين خالفوا سنن الأنبياء والمرسلين والنبي الخاتم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، والذي ليس باللعان ولا الطعان ولا الظالم ولا المتشدد ولا الفاحش، ولا البذيء، وجعل هذه الأوصاف أساسية للمؤمن الفعلي ..
قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ.." سورة آل عمران: 159.
إن ما يمارسه هؤلاء من تخوين وتكفير وترهيب واعتداء يعلمه الخاص والعام بالعالم الإسلامي ومختلف بقاع العالم، فأساؤوا أيما إساءة لصورة الإسلام، ونصبوا لأنفسهم وللناس محاكم يوم القيامة في هذه الحياة يدخلون إلى الجنة أو النار حسب أهوائهم وبظنهم لدرجة أنهم لم يبق أمامهم إلا وضع سكان الأرض جميعا أمام محكمتهم ويسلموا للناس قراراتهم ليعلم كل واحد وواحدة مستقره ومستودعه ما بعد يوم الحساب، بل وقد يذهب منهم البعض إلى ضرورة قتل كل "كافر"، وحتى من خالف مذهبهم، فلا يبقى في الدنيا إلا هم وأتباعهم.. وهذه من أغرب قضايا هؤلاء وأولئك، فسمحوا لأنفسهم بالتطاول والتهجم على مالم يقم به، ولم يتجرأ عليه الأنبياء والرسل، فتجاوزوا وعطلوا أمور الدنيا وشؤون الناس الموضوعية والضرورية لتيسير وإنجاح ظروف العيش الكريم وقيم العدالة والتضامن وحماية حرية المعتقد، كما أوضح ذلك القران الكريم والسنة الصحيحة.
إن الفتوى هي حكم/ رأي في ظرفية معينة وأمام مسالة خاصة، وحتى عامة، يتدخل في نسجها وتكوينها ميول وقناعات من نصب نفسه للإفتاء، أو نصب باسم الحاكم يـجمل فيها ما رجح في اعتقاده، أو يصوغها بالاعتماد على مرجعية سياسية أو أسباب مصلحية، لتصبح حكما وقرارا ملزما للفرد إن كانت خاصة به أو للأمة ولو لم يقتنع بها غالبية الناس.. والملاحظ أن آراء المفتين الكبار بالمذاهب المعتمدة تكون ملزمة لمن اتبع ذلك المذهب، وقد يتطرف البعض منهم في عدم القبول باختيار الرأي والفتوى من خارج المذهب الذي يميل إليه الشخص أو تخضع له طائفته أو بلده، وهذا فيه مبالغة تسقط المتعصبين والبعض من العامة في متاهات تقديم المذهب على الدين والشيخ على النبي، فيرجح تأويل الشيخ للآيات لتلائم المذهب كما يفعل بعض غلاة الشيعة ولو بإخراجها عن روح ودلالات النص القرآني الواضح، فيخضعون كلام الله وكلام الرسول لأهوائهم، بل ويضعون أحاديث خاصة بهم، وحتى أقوال شيوخهم تصبح مقدسة تعتبر مخالفتها في حكم الجرائم الإيمانية..؟!
قال ابن عباس (ض) "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله (ص) وتقولون قال أبو بكر وعمر".
إن البعض من أقوال بعض المشايخ "المتكلمين" في الحقل الديني عبارة عن زيادات وتأويلات في الدين لامعنى لها أمام العقل الديني والعقل البشري. حيث أصبحت محرمات بعض "المشايخ" تتطاول على ما لم يحرمه الله سبحانه وتعالى وهو وحده من له تشريع التحريم، أما موضوع استصدار تشريعات جديدة، فهذا يدخل في إطار القوانين الوضعية ومؤسساتها التي لها أن تمنع وتقنن وتنظم أمور الناس تحقيقا للمصلحة العامة، وهذه التشريعات ليست أزلية ولا مقدسة بل يمكن تغييرها وإلغاؤها كلما تبث أنها أصبحت متجاوزة وتعطل، أو تترتب عليها مضرة ومفسدة، وهذا المجال تأسست فيه ترسانة ضخمة من التشريعات والقوانين والتي لولاها لسادت وعمت الفوضى في كل الاوطان لعلاقتها وتقاطعها وتكاملها مع قوانين كل دول العالم الداخلية والدولية ..
وفي مثل هذا روي عن الرسول الكريم (ص) أنه: "حدث أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان وأن الله تعالى قال من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك".
ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) رواه البخاري .
إن الإنسان بمقدار ما يطور معلوماته وينضج عقله ويرشد نفسه ويصلح سلوكه ويهذب لسانه ويتأمل في رحمة الله وبديع صنعه وجمال عدله وكمالات حكمته يتلاشى ويضعف الشر والحقد والعنف، ليحل ويعم الخير والصلاح بما يفتحه الله للعارفين من أولياء وعلماء في مختلف العلوم، قديمها وحديثها والمستجد منها بل وعلوم المستقبل، والذين يكونون في غالبيتهم بشائر أمل وعطاء للبشرية والوجود والموجودات العاقلة المكلف منها وغيره، ولاشك أن المشترك بين العلماء هو سعيهم الحثيث وبجد نحو معرفة الحقيقة الوجودية والمادية والروحية لخذمة الأرض وسكانها، وهم مثل الساعي لفعل الخير أو أداء فريضة ولم ينجزها لعذر قاهر أو موت، فهو شرعا كمن فعلها في الثواب والرحمة ويجازى بنيته التي يعلمها الله وحده ولا يشرك في غيبه أحدا ..
قال تعالى مخاطبا الناس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ..) سورة الحجرات.
إن الخطاب الاسلامي في القرآن والسنة الصحيحة موجه للعالمين ولكل الناس ولكل المؤمنين، ومقتضى عدل الله أنه وهو القادر على كل شيء لم يبد الكفار ولا الفجار ولا المنافقين ولم يفضحهم ولم يمنعهم الأرزاق ولم يظلم أحدا منهم ..
قال تعالى (.. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) سورة الزلزلة.
إن خطاب بعض المشايخ والعديد من الجماعات التي كانت تسعى للتحكم تحت مسمى الخلافة يناقض العالمية والرحمة شحنوه بعنصرية وعرقية وإغراق في التشدد والعنف اللفظي والسياسي والمادي. إن مستوى المعرفة وطبيعة الخطاب في زمن نبوة ورسالة سيدنا محمد معروفة عند الجميع كما أوضاع الناس وثقافاتهم وسلوكهم وإمكانياتهم، وخطاب السماء والأنبياء والرسل عبر الرسالات والسير يأخذ بعين الاعتبار مستويات إدراك ووعي الناس تدرجا وتواصلا، فحدث بما يعلمون وما يجب أن يعلموه، ودعاهم للعلم والتعلم والبحث والتأمل والعمل لكي يتطوروا ويتحضروا ويدفعون بالتي هي أحسن ويتسابقون في الخير والإحسان، ودعم ذلك بأخبار وقصص السابقين للاستفادة والاتعاظ والتدبر، وأشار إلى أخبار القادمين باستعمال تحليل موضوعي وعلمي وتاريخي لطبائع الناس ومآلات الصراع بين قوى العدل والظلم والخير والشر والعلم والضلال والجهالة، واعتبر العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وعلى الناس كافة، وأمر ببدل الجهد وفق المستطاع في الفهم والاجتهاد لاستثمار الخيرات واكتشافها، ولبسط سلطة العقل على الموجودات وجعلها في خدمة الإنسانية والتوازن والاستقرار، ولم يكلف الناس فوق طاقتهم في الفهم ولا التكليف.. وفي هذا الباب قال الفقهاء و"كلمة لا أدري نصف العلم" ولم يخوضوا فيما يجهلون كما يفعل المتنطعون والمتفيقهون الذين لا الشمس كورت عندهم ولا القمر ولا حتى الأرض التي ثبتوها؟! ولا الجبال تسير سيرا ولا إكراه في الدين ..
قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (*) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (*) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (*) لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ سورة يس. وقال (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) سورة البقرة.
إن العمل الحسن والتقدم في الدول المتحضرة، واحترامهم للديموقراطية وحقوق الشعب، وخذمتهم للناس واحترامهم للتنوع والحق في الاختلاف جعلهم يصبحون ملاذا للمتشددين والتكفيريين والذين لم يجدوا أمكنة تأويهم في أوطانهم وبلدانهم، والذين منهم من يفتي وينعت غير المسلمين بالكفر ويبيح أو يأمر بقتلهم، أيا كانت جنسيته إن لم يتبعوهم، بل منهم من يحرض أيضا على قتل حتى المؤمن المخالف لهم.. مع العلم انه سبحانه وتعالى قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) سورة البقرة.. ومن أهل الكتاب من آوى المهاجرين الأوائل بالحبشة والذين قال الرسول الكريم في ملكهم النجاشي، كما ورد في السير، مخاطبا المسلمين بعد أن ضاق عليهم الأمر بمكة: "إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً (جماعات)".
أما الإيمان الحسن الذي موطنه القلب والروح فالله وحده أعلم بحقيقته وصدقيته تعلق الأمر بنا أو بغيرنا، لهذا فالعلم بالغيب والأمر لله وحده وليس لا لنبي ولا رسول ولا لغيره من الناس، قال تعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ سورة غافر.
إن مظاهر فساد الفهم إسقاط الجهل المعرفي في الشرح والتعليق على بعض أمور الدين وأحوال الناس، والذي يأتي عرضا أو عمدا في كلام بعض "الدعاة" و"المشايخ" من مثل: ادعاء معرفة مصير الميت عند غسله من جسده هل هو من أهل النار أو من أهل الجنة؟ أو بقول أن المرض عقاب إلهي وأن السرطان إن أصيبت به امرأة فهي "عاهرة"؟، وغير ذلك مما يخالف المنطق والعقل والعلم والشرع، إن هذا وغيره، دليل على أن هؤلاء لم يساهموا في التخفيف من آلام الناس ومعاناتهم، ولم يتأملوا في سير بعض الأنبياء والرسل والصالحين وما عانوه مثلا من مرض ومحن النبي أيوب التي دامت لسنوات عديدة، والنبي زكرياء الذي قطع بالمنشار حتى توفاه الله، ومعاناة الرسول سيدنا محمد (ص) مع المرض الذي مات بسببه، ومن بين ما وصف به مرضه هذا: "...أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم.. يجب أن نتوجه بالنصح لأنفسنا وللآخرين للاستفادة والتعلم من أقوال العلماء والصالحين ومنهم ابن العربي قدس الله روحه الذي قال: (الحكم نتيجة الحكمة والعلم نتيجة المعرفة فمن لا حكمة له لا حكم له، ومن لا معرفة له لا علم له)..وقال: (لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخلائق…). وقال: (العارف من يرى الحق في كل شيء، بل في كل شيء، بل يراه عين كل شيء).