يا للمفارقة! في الوقت الذي كان مسؤولو مدينة باريز يتباهون بعرض نماذج من حافلات للنقل الحضري تتوفر فيها آخر صيحات احترام البيئة، وذلك على هامش انعقاد مؤتمر المناخ (COP21)، كان مسؤولو مدينة الدار البيضاء يتناحرون حول تأويل التعليمات الملكية بشأن تجويد مرفق النقل الحضري الواردة في المخطط الخماسي 2015-2020 لتأهيل العاصمة الاقتصادية.
في باريز اصطفت مديرة وكالة النقل الباريزية (إليزابيت بورن) وعمدة باريز (آن هيدالغو) ورئيس الجهة (بول هيشون) وممثلة نقابة النقل الباريزية «فاليري بيكريس» في ساحة تروكاديرو قرب برج إيفيل وهم يرون النماذج الجديدة للحافلات التي تشتغل بالكهرباء والبيوغاز لتجديد 4500 حافلة بباريز خلال الفترة الممتدة من 2016 إلى 2025. أما في الدار البيضاء، فمازال المنتخبون والسلطة والتقنيون يتقاتلون منذ عام 2014، حول كيفية تنفيذ أوامر الملك باقتناء 200 حافلة جديدة لفائدة سكان الدار البيضاء، وأين ستوضع هل في مركز البرنوصي أم في مركز القدس أم في مركز المعاريف أم في بنمسيك؟ وهل تحتاج إلى مركز جديد؟ وأين سيبنى هذا المركز؟ وإذا تقرر بناء المركز الجديد، أين هو العقار؟ ومن سيسدد ثمنه؟ وأين هي فرق الصيانة والميكانيك المفروض أن تعمل في المركز الجديد؟ وإلى ان يستقر رأي المسؤولين البيضاويين على قرار ما، نجد المسؤولين بباريز حسموا الأمر بين شركة يوتونغ الصينية (YUTONG ) وشركة إيريزار الإسبانية (IRIZAR) حول من سيظفر بصفقة تزويد العاصمة الفرنسية ب4500 حافلة ابتداء من 2019 وعلى دفعات إلى غاية 2025.
ما الذي يمكن أن نستخلصه من هذه المقارنة؟
هناك درسان أساسيان: الأول يتجلى في أن مسؤولي باريز لا يثرثرون بل يعملون على عكس مسؤولي المغرب. والدرس الثاني أن باريز رغم تعدد مستويات الحكم فيها (جهة + بلدية + نقابة جماعية + وكالة...إلخ)، فإن الحكامة تمتاز بمرونة بسبب التقاء أهداف المسؤولين، على اختلاف مستوياتهم وأحزابهم، حول نقطة واحدة : ألا وهي رؤية باريز شامخة وجميلة ونظيفة وذات نقل حضري جيد جدا.
في المغرب، رغم أن الملك هو الضامن وهو الذي حرك البرك الآسنة، وهو الذي بارك المخطط الحضري الاستعجالي للدار البيضاء، فإن المسؤولين عندنا يتحركون بـ«المازوط» ولا «تسخن محركاتهم» إلا بعد سنوات ضوئية، علما أن معاناة البيضاويين مع التنقل ما فتئت تتفاقم يوما عن يوم. بدليل أن السرعة التجارية للحافلات نقصت خلال السنوات الخمس الأخيرة بثلاث نقط. وخسارة كل نقطة معناه خسارة في الناتج الداخلي الخام للمدينة ككل. المثير في النازلة أنه لما يتعلق الأمر بمصالح المنتخبين المادية، نجد «الماكينة» تشتغل بسرعة البرق لتلبية رغباتهم. خذوا مثلا صفقة كراء السيارات للمسؤولين، فهي تمت في رمشة عين : بين المصادقة من طرف مجلس المدينة والمباركة من طرف الولاية والتصديق من طرف وزارة الداخلية والتأشير من طرف الخازن العام للمملكة والتسليم من طرف شركة كراء السيارات. نفس الشيء يصدق على المحروقات بشأن الحصص (أو البونات) المسلمة للمنتخبين. فما أن تتلى برقية الولاء للملك في ختام الدورة حتى تتم الهرولة نحو المحطات لضخ البنزين لمص آخر قطرة في «البومبة»! لكن لما يتعلق الأمر بمصالح 3.5 مليون نسمة تقطن بمدينة البيضاء فإن «الشفوي والسماوي وتقرقيب السطولة و«لا لامالي» يكون سيد الميدان. والحجة لا تعدمنا في ذلك، فها هو التزام آخر طوقت السلطات المنتخبة والمحلية بالبيضاء نفسها به منذ عام 2012 ولم تلتزم به. ذلك أن تشغيل الخط الأول من الترامواي بالبيضاء اقتضى إبرام بروتوكول لمصاحبة مرفق النقل الحضري، وهو البروتوكول الذي تضمن التزامات مالية أهمها استثمار كل من «مدينة بيس» و«كازا ترام» في برنامج للتذاكر الإلكترونية لتسهيل تنقل المواطن وتشجيعه على استعمال الحافلة والترام (مثلما هو الحال في أوربا، إذ بتذكرة واحدة يتنقل المواطن في كل تراب المدينة بأسعار مغرية). ومنذ عام 2013 مازالت الشركتين (كازا ترام ومدينة بيس) تنتظران تفعيلا للمشروع وتنتظران الضوء الأخضر من المجلس البلدي ومن الولاية.
إلا أن الأخطر في الأمر ليس هو التلكؤ في أجرأة ما تم الالتزام به أمام الملك (لا ننسى أن سنة انصرمت من المخطط الاستعجالي)، بل حين نعلم أن عمدة الدار البيضاء السابق وطوال ولايته التي دامت 10 أعوام لم يجتمع إطلاقا مع مسؤولي شركة «مدينة بيس» التي تنقل يوميا 500 ألف راكب. وهذا ينهض كبرهان ساطع على مدى المرتبة الحقيرة جدا التي يضع فيها المسؤولون ملف النقل الحضري في أجندتهم (في باريز وميلانو وبرلين وكوبنهاغن ولندن يضع المسؤولون النقل الحضري على رأس الأولويات).
لكن لماذا نؤاخذ ساجد وهو القائل أن وزير الداخلية عام 2002 هو الذي «نصبه» لما تبنى المغرب وحدة المدينة. أليس المنصب (بفتح الصاد وضم الميم) مثلا المحجور عليه لا سلطة له على الملفات وعلى الانتظارات؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هو المبرر الذي سيقدمه العمدة الجديد للدار البيضاء عبد العزيز العماري وهو القائل أنه أتى للمسؤولية على «أكتاف الشعب».
أيرضيك أيها العمدة الجديد حال مرفق النقل الحضري بأم المدن المغربية؟.