في الوقت الذي كان العالم يتابع باندهاش التبريرات الواهية للسلطات السعودية من كون الحجاج الذين قتلوا في منى ( 769 قتيل لحد كتابة هذه السطور والعدد مرشح للارتفاع) لم يلقوا حتفهم بسبب سوء إدارة السعودية للحج، "بل لكونهم لم يحترموا التعليمات الموجهة لهم"، كانت أنظار المراقبين (ويا للصدفة) متوجهة إلى ميونيخ بمنطقة "بافاريا" الألمانية التي تشهد منذ19 شتنبر وإلى غاية 4 أكتوبر 2015 أكبر تظاهرة بالعالم، ألا وهي "المهرجان العالمي للبيرة" والذي يحج إليه سنويا ما بين 5 و7 ملايين شخصا من مختلف أنحاء العالم لإحياء طقس يعود ترسيمه إلى عام 1810 . وهذا العدد يضاعف ثلاث مرات عدد الحجاج الذين يقصدون البقاع المقدسة بالسعودية، إذ لم يؤد المناسك هذا العام – حسب سلطات الرياض – سوى 2.4 مليون حاج، منهم 600 ألف من داخل السعودية.
ورغم ضخامة "الحجيج" الذي يقصد ميونيخ فلم نسمع أن تدافعا في صفوف الزوار حصل وأسفر عن تسونامي من الضحايا مثلما يحدث في مكة، علما أن "حج" ميونيخ يختلف عن الحج بالبقاع المقدسة من أن الأول يتميز بظرف تشديد يتمثل في كون 6 مليون "حاج بألمانيا" يحتسون البيرة إلى حدود الثمالة ومع ذلك لا تقع مجازر ولا فواجع .
فما هو السبب يا ترى؟
الجواب سهل : إنه النظام وحسن التنظيم واستعانة ألمانيا بالخبراء في تأطير الحشود ووضع الخطط اللازمة ليمر مهرجان البيرة بميونيخ في ظروف آمنة ومؤمنة، عكس الحال بالسعودية التي أظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة أنها غير أهل للإشراف على تنظيم الحج. إذ في كل عام تقع الكوارث بسبب التقصير ودون أن تستخلص السعودية الدرس. فمهرجان البيرة بميونيخ وطيلة 200 عام من التنظيم لم يشهد أي حادث، اللهم الفعل الدموي الذي حدث عام 1980 وأودى بحياة 13 فردا وجرح 213 آخرين .في حين أن الحج بالسعودية عرف منذ 1965 إلى اليوم مقتل المئات من الحجاج ، ليس بسبب" الحر أو الشمس"، بل وبسبب التدافع أو الحرائق أو سقوط الرافعات وما شاكل، ذلك، وهي كلها عوامل ناتجة عن الفشل السعودي في التحضير الجيد والاستعانة بالخبرات الدولية وما أنتجه العقل الكوني من طرائق في التعامل مع الحشود في مثل هذه المناسبات، علما أن الحج ينظم منذ أزيد من 1400 عام.
مثال آخر على استبلاد السعودية لذكاء الإنسانية وتحميلها الحجاج مسؤولية فاجعة منى، يأتينا من أحد أكبر التظاهرات العالمية بالبرازيل، وأقصد بذلك "كرنافال ريو ديجانيرو" الذي تحج إليه في كل عام 2 ملايين نسمة من مختلف دول العالم. وهو مهرجان يتميز بظرفين للتشديد وليس بظرف تشديد واحد كميونيخ. فكارنفال "ريو ديجانيرو" لا يعرف سكب الأطنان من البيرة و الروج فقط ، بحلول فصل الربيع، بل ويشهد انفلاتا جنسيا شبقيا (أليست النسوة بالبرازيل أكثر نساء الكون اهتماما بصناعة الجسد؟) ، ومع ذلك لا نسمع عن تدافع وسقوط القتلى والمفقودين بالعاصمة المالية للبرازيل بمثل ما نسمع من أخبار قادمة من مكة، لدرجة أن الدول الإسلامية لو تخلت عن نقل جثامين رعاياها من الحجاج لكانت مقبرة مكة أكبر مرفق بالسعودية بحكم أن شساعة السعودية لن تكفيها لدفن من يتساقط من ضحية بترابها.
والطامة الكبرى أن السعودية لم تفشل في تنظيم الحج، بل وفشلت حتى في إدارة أزمة فاجعة منى. فلا المعلومات قدمت في الحين لطمأنة الرأي العام الإسلامي، ولا التدابير اتخذت لتحديد هوية القتلى بسرعة لإطفاء الغليان والقلق لدى الأسر التي فقدت أقاربها في مكة، علما أن السعودية تجني ما يقرب من 9 ملايير من الدولارات كمداخيل الحج (لمدة شهر) وهي مداخيل تفوق ثلاث مرات مداخيل قناة السويس (لمدة عام) التي تعبر منها ثلث التجارة العالمية. ورغم هذه الملايير الهائلة لم تنفق السعودية ميزانية لتكوين الأطباء في التشريح واقتناء المعدات الجينية الخاصة بمثل هذه الحوادث للتعرف على الجثث والتي قلنا أنها تتكرر باستمرار ( للمقارنة خلف إعصار "كاترينا" بالولايات المتحدة أزيد من 3300 قتيل ومع ذلك تم تحديد هوية الضحايا بسرعة وسلموا لذويهم . نفس الشيء حصل حينما وقع التفجير الإرهابي لت"توين سنتر" بنيويورك وسقوط أزيد من 3000 قتيل لكون الإدارة الأمريكية جندت كل الأطقم لديها لتحديد هوية وجنسية الضحايا بسرعة).
وها نحن في اليوم الثالث بعد فاجعة منى، ومازلنا ننتظر أن تتفضل علينا السلطات السعودية بلائحة الضحايا، وهو (أي تحديد اسم الضحية لدفنه) أبسط حق من حقوق الإنسان كمل هي متعارف عليها عالميا.
ويا لسخرية الأقدار، أن السعودية هي التي تترأس حاليا دورة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.فبئس حقوق الإنسان و بئس الحكومة المغربية وحكومات الدول الإسلامية التي لم تطالب أي واحدة منها بعقد اجتماع طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي لبحث سبل وطريقة جديدة لإدارة شؤون الحج وتجريد السعودية من هذا الحق، مادام الحج شأنا يهم المسلمين ككل وليس ريعا تنتفع به السعودية بدون وجه حق.