محمد المرابط: الإجهاض والفعل النقدي للطلبة.. من مقترب حقوق الإنسان إلى المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي

محمد المرابط: الإجهاض والفعل النقدي للطلبة.. من مقترب حقوق الإنسان إلى المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي

برؤية مشتركة، نظم نادي حقوق الإنسان بكلية الحقوق بطنجة (المندرج ضمن نسيج النوادي الحقوقية بالمعاهد العليا والمؤسسات التعليمية التي تسهر عليها اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة طنجة-تطوان)، وماستر النوع وحقوق النساء بين ضفتي المتوسط، بنفس الكلية، مساء متم شهر أبريل 2015، لقاء علميا حول الإجهاض، لفائدة طلبة الماستر والإجازة، أطرته في الجانب الطبي الدكتورة الزهرة بلفقيه، اختصاصية طب النساء، وفي القانون الجنائي المقارن أطره الدكتور عبد الله أونير، أستاذ القانون الخاص والعلوم الجنائية ومنسق الماستر المذكور، وفي الجانب الفقهي، أطره عبد ربه.

سأعتمد صيغة مغايرة لنمط الكتابة في موضوع اليوم، حيث سيكون التئام هذا اللقاء، في حضن أكاديمي وبفعالية حقوقية، مناسبة لتأملات في قياس نبض الطلبة والفعل المؤسسي والبيداغوجي. لذلك فاستحضار مساهمة الطلبة في التسيير والنقاش من منطلق الوظيفة الأكاديمية لمؤسساتنا العليا، ودينامية المقترب الحقوقي، لنوادي حقوق الإنسان في الفعل العقلاني للمجلس الوطني لحقوق الإنسان في إشاعة القيم الكونية لهذه الحقوق، ودوره في إنجاح استحقاقاته في تأهيل المنظومة القانونية على أرضية هذا الانشغال، ومختلف أوجه الحكامة ذات الصلة. وكذلك إخضاع مداخلتي للتشخيص البيداغوجي، كل هذا سيساهم في انصهار ما تفرق في بوتقة واحدة.

لقد كان النقاش هادئا ورصينا، أبان فيه الطلبة، مغاربة وجنوب الصحراء وجزر القمر، على حيوية في طرح تساؤلات تنفذ إلى عمق الإشكالات، بكل حرية واقتدار. وهذا الأمر يحسب للرصيد العلمي لأي مؤسسة تسهر من خلال مؤطريها على تمتين جبهة السؤال، وإخضاع كل الرؤى للتدقيق العلمي والمنهجي.

أعتقد أن هذا المناخ المثمر، هو من باب رد الفضل لأهله، متشبع بدائرة أكبر من الهدوء، وفرها التدخل المبكر لصاحب الأمر/ أمير المؤمنين، الذي وأد في المهد حسابات النفخ في رماد الفتنة، فوفر بذلك الأجواء المناسبة لمطارحة هذا الموضوع، على المستوى الرسمي وخارجه، بمقاربة تشاركية تحمل هاجس الإصغاء لمتطلبات الإصلاح. وأنا إذ أنوه بهذا الحس الاستباقي، أستحضر مناخ النقاش المشحون وانقسام المجتمع حول الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وقد كنت أحد الفاعلين في هذا النقاش وأحد المشاركين في مسيرة الرباط، في مقابل مسيرة الأصولية بالدار البيضاء. وأديت ثمن هذا الانخراط، بأن أوقف الأستاذ إدريس خليفة عميد كلية أصول الدين بتطوان، الإشراف على أطروحتي الجامعية. ولا ننسى في هذا السياق رسائل التهديد بالتصفية الجسدية. ما هو جدير بالتنويه أنه كلما تدارك صاحب الأمر الأمة في الوقت المناسب، كلما كان ذلك لصالح أفق التعبئة الوطنية على أرضية الانشغالات الحقيقية للإصلاح، وبما يلزم من ضبط دقيق للتوازنات الضرورية للفعل الجماعي الهادف.

تحيلنا مساهمة نادي حقوق الإنسان في هذا اللقاء، على إشراك صاحب الأمر لرئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إلى جانب وزيري الأوقاف والعدل بخصوص تعديلات موضوع الإجهاض. وهذا الإشراك  دال من وجهين:

أ- بمنهجية مغايرة للجنة تعديلات مدونة الأسرة، أوكل صاحب الأمر النظر في شأن تعديلات موضوع الإجهاض، إلى قطاعين حكوميين معنيين بالقانون والدين، وإلى مؤسسة وطنية دستورية مستقلة معنية بحقوق الإنسان. من هنا تكون مسؤولية المجلس الوطني لحقوق الإنسان جسيمة إذا أخذنا علما بالمنتوج الأصولي والمحافظ للقطاعين الحكوميين. ليس على مستوى المضامين التي يمكن أن يتم التوافق حولها، بل على مستوى المصطلح والتبويب القانوني اللذين سيحتضنان هذه التعديلات. لأن الأمر مرتبط في النهاية، بفلسفة التشريع. هل ستندرج ضمن المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي لصاحب الأمر، أم خارجه؟

ب- إشراك المجلس الوطني لحقوق الإنسان في أمر من صلاحيات أمير المؤمنين، هو رسالة للسلطة الحكومية لإشراك هذه المؤسسة الوطنية، من الباب الواسع، فيما يندرج ضمن صلاحياتها التشريعية. ولإنجاح هذا الدور لا بد للمجلس من نوافذ أخرى يطل بها على ما هو أعمق من ذلك، وأعني العلاقة التفاعلية بين تغيير الذهنيات وتغيير العادات والأعراف والقانون. وفي صلب هذه الجدلية يكمن تنسيب النظر إلى الكلمات والأشياء من خلال الإصغاء لتشكل المفاهيم وتطورها، وربط تغيير الأحكام بتغيير الأحوال. ما أضمر فيه القول هو ضرورة انشغال المجلس بهذا الأفق من خلال شراكة وظيفية مع الرابطة المحمدية للعلماء، وبمسحة الرؤية المنفتحة للأستاذ أحمد عبادي. فتجسير الهوة بين ما يعتبر شرعا وما يعتبر قانونا، وما يعتبر خصوصية وما يعتبر قيما كونية، بما في ذلك فضح الزيف الذي يدخل هذه الأزواج المتقابلة بفعل التنميط الأصولي، هو أمر في غاية الأهمية للرؤية الانسيابية في الإصلاح.

لقد سبق لي أن تمنيت من خلال مقال "مطلب الاجتهاد في ظل مأزق الحاكمية"، بـ "الأحداث المغربية" 5/2/2014، على الرابطة المحمدية للعلماء، بالنظر إلى اعتبارات مواجهة من يعتبر خارج السياق، أن آيات القتال قد نسخت آيات الرحمة. وبالنظر أيضا إلى "خميرة" الرصيد النوعي لندواتها العلمية، "أن تشتغل هذه الخميرة على دفتر المطالب الحقوقية لكل الفئات التواقة للعدل. وقبل ذلك إنجاز قراءة في الناسخ والمنسوخ باعتبار السياق، لتكون بذلك مؤسسة الرابطة قوة اقتراحية ذات مصداقية لدى جميع الفرقاء، بسد الفراغ أولا في شبكة الإنصات والتواصل العمومي، والاستجابة ثانيا لانتظارات بلد رائد في المقاصد، وفي عهد مستوعب لآمال المغاربة في العزة والكرامة. وتنبع هذه المطالبة من ثقافة التكامل بين المجتمع والدولة في مطارحة القضايا الجوهرية للأمة". وقبل ذلك ختمت مقال: "نزوع التكفير اعتداء على رحمة الله الواسعة"، بـ "الأحداث المغربية" 23/1/2014، وأنا أقف على عينات من التراث ترفض تكفير عوام المسلمين والتضييق على رحمة الله، بالقول: "فما أحوجنا اليوم إلى من يطور هذه الخميرة باجتهادات تأخذ في الاعتبار مفهوم الوطن والمواطنة والجوار الإنساني، في ظل المنتظم الدولي والقيم الكونية، تحمي بها رحمة الله الواسعة من التضييق والمصادرة، وتحمي بها المشترك الإنساني في الداخل والخارج. ولنا في منظومة التصوف المغربي خميرة أخرى، مما ينهض بجانب من هذا المشروع التربوي الإصلاحي. لكن من سيتولى ذلك، أمام هذه الاستقالة ممن هم في موقع التبليغ والفتوى؟".

ولإدراك متعة المتابعة في هذا الجانب أنه في الوقت الذي قبل فيه صاحب الأمر النظر في تعديلات قانون الإجهاض، وحسم في زاوية النظر إليه، وجدنا من هو محسوب على المؤسسة الدينية وعلى أمواج الأثير يعتبر أن الموضوع حرام وأنه لا اجتهاد مع النص، والحال أن علة الحكم في الموضوع عقلية وليست نصية، وبالتالي يخضع لحكم المصلحة. ورحم الله علماءنا الذين كانوا يسطرون ما يعتبرونه الموقف المبدئي للشرع، لتكون خاتمة مطاف قولهم: "الضرورات تبيح المحظورات".

اخترت عنوانا لمداخلتي: "الإجهاض: موضوع بالاجتهاد في اكتمال مستمر"، لكن لتفكيكه وإعادة بنائه اعتمدت منهجية أخرى، وهي لا تختلف عن منهجية "السبر والتقسيم" التي اعتمدتها  في المقالات الثلاثة  في سياق المساهمة في النقاش العمومي حول الموضوع. وهي للتذكير: "الإجهاض في المذهب المالكي من مدخل ضبط مسالك النقاش"، و"الإيقاف الطوعي للحمل بين التأويل الفقهي والترسيم القانوني"، و"الإيقاف الطوعي للحمل من تغيير المعنى إلى تغيير المبنى". هذه المرة اعتمدت، ونحن في مقام تربوي منهجية "التدلي والترقي" من "سَنن المهتدين في مقامات الدين"، لأبي عبد الله محمد المواق الغرناطي.

اعتمدت في "منهج التدلي"، الانطلاق من أعلى محطة لتشكل موضوع الإسقاط من خلال كتب النوازل، كفتاوى البرزلي والونشريسي وعليش، ثم الانتقال إلى شواهد هذا الاكتمال النسبي من كتب الفقه، وهي مشروطة بسياقات داخلية لأبواب الدية والعزل والعتق، ثم الانتقال إلى مسرد أطوار الجنين في القرآن والسنة كمستند لما قررته ألأبواب الفقهية من أحكام.

واعتمدت في "منهج الترقي"، الانطلاق من النصوص المرجعية قرآنا وسنة، حيث تبين أنها جاءت في معرض بسط قدرة الله في الخلق والبعث وما بينهما من قدره وقضائه، وبالتالي فهي لا تنشئ أحكاما. ثم الانتقال إلى الأبواب الفقهية، حيث تبين أن حضور الجنين هو لسياقات مغايرة لانشغال اليوم، وأن ضروب الأجنة مرتبط بموقع الأم من الإسلام والحرية، وطرحه مرتبط باستحقاق الأم الدية واستحقاق الحرية. وأن موقعه في الدية ما دون النفس، تتموضع بين دية النفس ودية الأطراف. وعندنا في المذهب حسب قواعد المقري، "قال مالك: الجنين جزء من الأم، ففيه عشر قيمة الأم. وقال النعمان ينفرد بنفسة(..) وقدر الصحابة الغرة بدية الموضحة"؛ أي دية جروح ما دون النفس من الأعضاء، وفيها نصف عشر الدية. ثم الانتقال إلى النوازل التي بدأ معها الموضوع يتشكل بالتدريج باستصحاب أحكام الأبواب الفقهية بدون إخضاعها للسبر والتقسيم. لكن بدأت تستقر هذه الأحكام في أبواب فقهية لا ترتبط بالجنايات، بل مرتبطة بالأسرة، حتى وإن تضمنت أحكاما جنائية.

فأبو القاسم البرزلي (ق:9هـ) أشار إلى  الموضوع في مسائل الرضاع، وتحت مسمى إخراج ما حصل من الماء في الرحم. ووقف عليه أحمد الونشريسي (ق:10هـ) تحت مسمى إسقاط الجنين، في نوازل النكاح. وأفاض فيه القول أبو عبد الله محمد عليش (ق:13هـ)، إلى جانب استعمال دواء منع الحمل، في مسائل النكاح، تحت مسمى إسقاط ما أمسك الرحم من المني.

هذا التراكم يجعلنا اليوم في مقامات  الترقي أمام ثلاثة استحقاقات:

أ: حصر الحالات الموجبة للإيقاف الطوعي للحمل (ivg)، تستحضر مكتسبات الطب، ومختلف إكراهات الحمل غير المرغوب فيه .

ب: تغيير المصطلح الناظم لهذه العملية، إذ يستحسن تجاوز مصطلح الإجهاض، وهو مترجم من المصطلح الغربي avortement، كما تم تجاوزه في الغرب نفسه.

ج: تغيير التبويب القانوني من القانون الجنائي إلى مدونة الأسرة، مراعاة لاستقرار هذا الموضوع في ملمح تشكله، في كتب النوازل، في باب النكاح.

أعتقد أن توليفة انفتاح العقل الطلابي على ضروب المساءلة والنقد، وحرص المؤسسة الجامعية من خلال انفتاحها على تنمية رصيدها الأكاديمي، وحرص المجلس الوطني من خلال أذرع فعله الميداني على النهوض بثقافة حقوق الإنسان، وحرص المداخلات الثلاثة على التقيد بضوابطها الطبية والقانونية والفقهية. كل هذا يمثل النبض المتكامل للتغذية الراجعة للمناخ الصحي الذي أريد له أن يطبع النقاش العمومي حول تعديلات موضوع الإجهاض. ويبقى في أفق الانتظار، أمل التقاط هذا النبض المتكامل، وبكل ما يلزم من عنفوان المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي.