إذا كان هناك من بعض البوح، فقد وضعت علامة الاستفهام على هذا العنوان، نشدانا لبعض النسبية، لأنه يصدمني بالفعل. لكنه بهذه النسبية، سيشكل مدخلا لهز بعض الارتياح الذاتي لمن أخلد إلى الاطمئنان الزائف. هذا الاطمئنان الذي يخفي هول تمدد كماشة التطرف التي تهدد ما تبقى من رصيد الذهنية المغربية المتفتحة. ولعل هذا العنوان تمليه مناسبة تمفصلات آنية، داخلية وخارجية:
1) انشطارالسعودية -ونحن نستحضر رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ونفسه الإصلاحي، رحمة الله عليه- بين دعمها المادي للمنتظم الدولي لمحاربة "داعش"، وتنديد مؤسسة إفتائها بهذا التنظيم الإرهابي، وبين كون الوهابية، الإديولوجية الرسمية للدولة السعودية، تمثل الأم الحاضنة لهذا التنظيم، بحيث لا تعلم يدها اليمنى في أحسن الأحوال، ما تفعل يدها اليسرىٍ. وهذا يحيل عندنا في المغرب، إلى مخاطر التدبير الأصولي المفوض للحقل الديني.
2) تأرجح الموقف المغربي بين رفض الحكومة المشاركة في مسيرة الوحدة الوطنية بباريس في أعقاب الهجوم الإرهابي على شارلي إيبدو، وبين إشارة دعم هذه الوحدة من خلال توشيح الأميرة للا مريم باسم أمير المؤمنين بمعهد العالم العربي بباريس، لرجال الدين ممثلي الديانات الثلاثة. وما بين هذين المستويين كان حواري في "الوطن الآن" 15/1/2015، حيث اختارت هذه الأسبوعية، تأطيره بهذا العنوان: "السياسة الخارجية يجب أن تحكمها مصلحة الدولة، وليس التمرير لحساسية حزبية إخوانية ترأس الحكومة".
3) تحريم الأستاذ أحمد الريسوني محاربة "داعش"، كمحاولة للنيابة عن السيد رئيس الحكومة، الذي يتحرج حزبه بطابعه السلفي والإخواني، من طرح مسألة مشاركة المغرب في الحرب على هذا التنظيم، من داخل الأطر الدستورية، فتم توظيف المدخل الديني في الموضوع عوض المدخل السياسي. وهذا من ذكاء "تأدب" رئيس الحكومة مع رئيس الدولة. فهو كنادية ياسين يجيد الحفر من تحت الجدار.
مضمرات هذه التمفصلات المتمثلة في:
أ) استنساخ الحالة السعودية في علاقة الدولة بالدعوة.
ب) استهداف النموذج المغربي كبديل في علاقة الإسلام بالغرب.
ج) تكريس حركة التوحيد والإصلاح، وذراعها السياسي، ممارسة الدين في السياسة والطائفية المذهبية.
تستدعي هذه المضمرات، العودة قليلا إلى الوراء. ففي "فسحة رمضان" في جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، صيف 2013، نشر الصديق الأستاذ يوسف احنانة -من بين ما نشر- ضمن عنوان: "مواقف مغربية تتحدى الظلام"، ثلاثة نماذج لـ "علماء مغاربة في مواجهة الحركة الوهابية"، حيث خصص ثلاث حلقات لعبد الحي القادري، وحلقتين لعبد الحفيظ كنون، وحلقة واحدة للطاهر اللهيوي.
صديقنا الغماري حتى وهو يكتب عن الماضي القريب أو البعيد، منشغل بلا شك، بهواجس الحاضر سواء من خلال "حفريات في ذاكرة الشمال المنسية" في جريدة "الغد، نبض الشمال"، أو "فخاخ الذاكرة" في "الاتحاد الاشتراكي" أواخر تسعينيات القرن الماضي، أو "ذاكرة التراث" في "الأحداث المغربية"، في بدايات الألفية الحالية، فضلا عن بعض المواضيع في أسبوعية "النشرة". فانشغاله بالنموذج المغربي-عقيدة وتدينا وثقافة- واضح حتى من المدخل الأنثروبولوجي.
تشاء الصدف أن تكون أسماء هؤلاء السادة العلماء رحمة الله عليهم تمثل الخريطة الصوفية، فالأول قادري والثاني تيجاني والثالث شاذلي مشيشي، بمعنى أن المكون الصوفي يتموضع في طليعة التصدي للمد الوهابي، وهذا بالرغم من افتقار الزوايا إلى دعم وزارة الأوقاف، حتى تقوم بدورها في التأطير الديني السليم للمواطنين. وتشاء الصدف أن تكون إنتاجات الأولين منها تعود لعهد أب الأمة سيدي محمد بن يوسف، في حين يعود إنتاج الثالث إلى عهد المرحوم الحسن الثاني. ويمكن أن نضيف بالنسبة إلى العهد الجديد، أحمد الخليفي من خلال كتابه: "حقائق تاريخية عن سرية الحركة الوهابية"، وإن كان نقد الوهابية أصبح، في هذا العهد، من المحرمات في المغرب،على الأقل بالنسبة للقناة السادسة.
في كل الأحوال، لم يخل عهد منذ أن تأثر بعض سلاطين المغرب بالوهابية وجهرهم بحنبليتهم، من رد العلماء المغاربة عليها. فسيدي محمد بن عبد الله قد منع بفعل هذا التأثير تدريس علم الكلام والمنطق والفلسفة والتصوف. وكان من ضحايا مناخ هذا التأثير، حياة عبد الله بن عزوز المعروف بسيدي بله، وهو كما حلاه ابن المؤقت المراكشي: "حكيم الإسلام وعلم الأعلام، أعجوبة زمانه ووحيد عصره وأوانه، الجامع لفنون العربية والمتوغل في أسرار الحكمة العجيبة". كما تم في عهد الحسن الثاني لاعتبارات سياسية، منع معهد العلوم الاجتماعية والتضييق على تدريس الفلسفة، وفي المقابل تم إحداث شعبة الدراسات الإسلامية بكليات الآداب بخلفية أصولية، مما ساهم في تشكيل تيارات الوهابية والإخوان. وتم السماح بوجود جمعيات دينية بهذه الخلفية، مما كرس الطائفية المذهبية، وفي تحد صارخ لوظيفة إمارة أمير المؤمنين في المغرب.
من الطبيعي أن نجد اليوم بفعل هذا التراكم، المذهب الحنبلي في الرتبة الأولي والشافعي في الرتبة الثانية بإيديولوجيتهما الوهابية والإخوانية، ليأتي مذهب البلاد في الرتبة الثالثة، والتشيع في الرتبة الرابعة. ومن الطبيعي أن نجد أيضا في ظل هذا الوضع، جامعة القرويين خارج منطق وجودها التاريخي. ووصل الأمر جراء ذلك، إلى أبعد من تحكم المنتوج الأصولي في مفاصل القرار الديني في البلاد وهياكله وفضاءاته.
إن تراكم المخطط الأصولي على المستوى الفكري والبشري ومواقع الإنتاج والمسؤولية الرسمية، يسمح لنا بالإجابة عن السؤال التالي: لماذا أصبح المغرب يصدر الإرهاب؟ ولماذا تتصدر الأصولية المشهد السياسي، وتناهض مرجعية إمارة المؤمنين اسما أو مسمى؟ الجواب بسيط للغاية لقد أصبح المغرب بلدا طائفيا. وهو في الطريق إلى أن يصبح بلدا قابلا لتصدير الوهابية بالوكالة عن أصحابها، ليرتاح أصحاب الدعوة في السعودية، عله يتم التفرغ لإعادة قراءة ابن تيمية بكل هدوء، والتمكين هناك لمنطق الدولة في الإصلاح.
ما العمل لتجاوز هذا المنزلق عندنا؟ الأمر يستدعي أولا خطابا قويا في الحقل الديني على غرار قوة خطاب العرش في السنة المنصرمة في الجانب السياسي،على الأقل يذكرنا بقوة خطاب هيكلة الحقل الديني سنة 2004، بعد أن تحول هذا المشروع الواعد في أصوله، إلى رافعة للهدم الممنهج للمعمار المذهبي للبلاد. فهل من فضيلة للإنصات لترجمة الوعي الرسمي بالمنزلقات التي تنحدر إليها البلاد، وبالتالي الإمساك بمدخلات "العواصم من القواصم"؟
أعتقد أن هذه المدخلات هي أيضا من باب واجب التأمل والتفكير المفترض لدى القوى الديمقراطية، في إطار جبهة عريضة لتكامل المجتمع والدولة.