عبد السلام بنعبد العالي: الكتابة.. فعل شتوي لا يقنع بلغو الصيف

عبد السلام بنعبد العالي: الكتابة.. فعل شتوي لا يقنع بلغو الصيف عبد السلام بنعبد العالي وفي الإطار لوحة "صيادو الثلج" للفنان بيتر بروغل الأكبر
خصصت مجلة:" الجسرة الثقافية " الإلكترونية في العدد 69 ( أكتوبر - دجنبر 2025 ) ملفا حول طقوس الكتابة في فصل الشتاء، وضمنه ساهم ذ. عبدالسلام بنعبدالعالي بمقال ممتع، تعيد " أنفاس بريس" نشره نقلا عن موقع: aljasrah.net:
 
"في عزّ الشتاء، تبيّنت في داخلي صيفًا لا يُقهَر"
ألبير كامو
"عشق الشتاء، هو ربيع العبقرية"
غاستون باشلار
حتى وقت قريب كانت الفصول تقسّم العام كما تقسّم التجاربُ العمرَ إلى مراحل. كانت رمزية الخريف والربيع والشتاء والصيف تضبط الإيقاعات المناخية، كما تضبط الإيقاعات النفسية والاجتماعية: الخريف وقت التهيّؤ والتأمل، الشتاء للانكفاء والدفء، الربيع للبدايات، الصيف للامتلاء والنشاط، انتظام والتحام تام بين الإيقاعات.
 
قضى "التسارع التاريخي" على هذا التمايز وأخذ يفرض اتصالا مستمرا. ولم يعد التحوّل طبيعيًّا (كما في الفصول)، بل تقنيًّا سريع الزوال، يعاد تشكيله عند كل تحديث أو موجة. امحى كل ما يميز الفصل عن الآخر، وصارت المدن تعيش على الهواء المكيّف، فلم تعد درجة حرارتها تتوقف على فصول، كما أن الأضواء لم تعد تخفت، والأسواق لم تعد تغلق، والشاشات لم تعد تعرف اختلافًا بين الصباح والمساء، ولا بين الشتاء والصيف.
 
 
 
 
لم يعد الزمن يدور في حلقات، بل صار خطًّا مستمرًّا بلا تعرّجات موسمية. لم تعد الفصول حركة للطبيعة، بل تحوّلت إلى استعارات داخلية وحالات نفسية: خريف الإنسان صار يعني مللا أو إرهاقا من جراء السعي وراء اللحاق بفائض السرعة، وشتاؤه غدت عزلته وسط الضجيج الرقمي، وربيعه نشوة البداية المفتعلة في مشروع أو علاقة جديدة، وصيفه توهّجه اللحظي في زمن لا يحتفظ بالحرارة طويلاً.
 
ما زلت أذكر، وأنا طالب في الجامعة، ربطَ الجنرال ديغول، في مذكراته، تاريخَ فرنسا بإيقاع فصول السنة. فحين قسّم ذلك التاريخ إلى فصول، لم يكن يصف تواريخ سياسية فحسب، بل يصف حركة الكون بأسرها، ويستعير من الطبيعة إيقاعها العضوي ليفهم حركة الأمة الفرنسية، وكأن تاريخ هاته هو تاريخ الطبيعة وتاريخه هو.
 
 
 
زمننا السياسي اليوم، ليس هو الزمن الذي عاشه الرئيس الفرنسي، فهو لا يعكس الزمن الطبيعي، وفصولنا لم تعد تتعاقب كما في الطبيعة، بل إن التحوّل المناخي جعلها هي نفسها تفقد إيقاعها، فهي تتقطّع وتتداخل بلا انتظام: ربيع يتحوّل إلى خريف، وشتاء يتخفّى في الصيفٍ. لقد صار "ربيعنا" حدثًا إعلاميًّا أكثر منه زمنًا للتفتّح. فإنساننا الرقمي لا ينتظر الربيع، بل يصنعه افتراضيًّا في أي لحظة، بوسمٍ واحدٍ، أو بثٍّ مباشر.
 
لقد تحولت رمزية الفصول في زمننا من كونها علامات في الطبيعة إلى علامات تسكن الخطاب، إلى حدّ دفع البعض إلى القول "إننا نعيش اليوم فصولاً لغوية أكثر مما نعيش فصولاً مناخية". ولعل التسمية التي أطلقناها على ما دعوناه "ربيعا عربيا"، كانت تعكس رغبة في التحوّل سكنت خطابنا السياسي أكثر مما فعلت في واقعنا الاجتماعي، حيث تبينا أننا سرعان ما واجهنا "برودة شديدة"، ودخلنا في حالة الشتاء بوصفه زمن الانكماش والتأمل، زمن ما بعد الانفتاح، وما قبل عودة النور.
 
"الشتاء" هو زمن الانطواء بعد فائض الظهور، زمن الخلود إلى الصمت بعد صخب الصيف وانبهاره، فبعد امتلاء الخريف بالتحضيرات و"الدخولات" المدرسية والسياسية والثقافية، يأتي الشتاء كوقفة، كصمتٍ كثيفٍ بين حالتين من الصخب.
 
في الشتاء، تخلد الأشياء إلى نفسها، وتُعيد الكائنات بناءَ صلاتها الداخلية. وتكتسي الطبيعة ويحمل البشر ألوانا قاتمة ترد إلى الذات أكثر مما تنفتح على الخارج. حتى اللغة تميل في هذا الفصل إلى الاقتصاد والاختزال، وكأنها تتدرّب على الإصغاء أكثر من الكلام.
 
الشتاء فصل الحنين إلى الصمت والبطء، إلى زمنٍ يحاول أن يستعيد شيئا من الروية والعمق. إنه زمنٌ يضع الإنسان وجهاً لوجه أمام الغياب، غياب الأضواء والألوان، وغياب الآخرين، وغياب المعنى الفوري.
 
 
 
الشتاء زمن المقاومة الهادئة ضد منطق التسارع. إنه الزمن الذي يمكن أن يولد فيه الفكر، لأن التفكير نفسه يحتاج إلى نوعٍ من البرودة، من الانقباض، ليعيد ترتيب ما بدّده الانفتاح. ولأنه لا يعود يقتنع بـ "الوضوح الواضح"، والمعاني المسطحة، والمعارف المباشرة، والآراء المتداولة.
 
فليس غريبًا أن معظم الكتابات التأملية العميقة، والولادات الفكرية الكبرى، تنبع من "شتاء داخلي". كثير من المفكرين (من نيتشه إلى باشلار) وجدوا في الشتاء استعارةً لليقظة الفكرية و"الـدفء الداخلي" في مقابل صقيع العالم. حين يشتدّ هذا الصقيع ينسحب الكاتب إلى لغته كما ينسحب الجسد إلى دفئه.
 
الكتابة، في عمقها، فعل شتوي لا يقنع بـ "لغو الصيف". فهي تتطلب ذلك المناخ الداخلي الذي تُطفأ فيه الأنوار الخارجية كي يتّقد ضوء آخر، ضوء الفكر، والخيال، والذاكرة، أو الحنين. كأن الكاتب في الشتاء لا يصف العالم في وضوح صارخ، بل ينصت إلى ما يختبئ وراء الظلمة الكثيفة.
 
وفي هذا الإنصات يتولد ما يمكن تسميته بـ "حرارة النص": دفءٌ لا يأتي من الخارج بل من احتراقٍ بطيء في الداخل، هذا هو الدفء التي طالما تحدث عنه ألبير كامو، والذي كان يستشعره في أشد درجات الحرارة برودة. كأن الشتاء يذكّر الكاتب بأن الكتابة ليست إنتاجًا بل مكوثٌ في الزمن، وليست خطابًا بل تدثر بحرارة اللغة. في الشتاء تغدو الكتابة دفئا مضادّا للصقيع الوجودي. إنها أشبه بموقد صغير في بيتٍ واسعٍ مظلم، لا تطرد البرد تمامًا، لكنها تمنح الكائن ما يكفي من الحرارة ليستمر في الحلم.
 
فصل الشتاء هو الفصل المفضّل لدى عدد كبير من الكتّاب والمفكّرين، ليس فقط بوصفه زمنًا مناخيًا، بل بوصفه حالةٍ فكرية وجمالية تعبّر عن الصمت، والانتظار، والانكفاء الضروري قبل انبثاق المعنى.
 
نعلم أن نيتشه حرّر معظم كتبه الأساس شتاءً، مثل "فجر" و"إنساني مفرط في إنسانيته"، و"المسافر وظله"، وكذا "زرادوشترا". فقد كتب في "هو ذا الإنسان" آخر كتبه: "عشت الشتاء الأقل شمسا في حياتي شبحا في ناونبورغ. كنت في الدرك الأسفل آنذاك. وقد جاء كتاب "المسافر وظلّه" من نتائج تلك الفترة. خلال الشتاء اللاحق، أول شتاء لي بجنوة، تمخضت تلك الرقة وشفافية الروح الناجمة، على ما أعتقد، عن فقر في الدّم ووهن العضلات، عن مؤلّف "الفجر"..."إنساني مفرط في إنسانيته" ألّف في جزئه الكبير في سورنته، اختتمته فاتخذ شكله النهائي خلال الشتاء الماضي في بال...الشتاء الموالي، وتحت سماء مدينة نيس، التي ألمعت بنورها لأول مرة في حياتي، أتممت القسم الثالث من "زارادوشترا"، فأتيت على نهاية الكتاب".
 
لم تتمّ هذه التأليفات شتاء بمحض الصدفة، فقد كان ارتباط نيتشه بفصل الشتاء وبرودة هوائه شديد الحميمية، رغم أمراضه المتعدّدة.
 
نقرأ في "هو ذا الإنسان": "من يعرف كيف يتنفس من الهواء الذي يملأ كتاباتي، يدرك أنه هواء أعالٍ، هواء شديد قاسٍ، على المرء أن يكون مجبولا لمثل هذا الجو، وإلاّ فإن الخطر سيكون غير هيّن، خطر الإصابة بالبرد، فالجليد قريب، والوحدة رهيبة".
 
الارتباط ذاته نجده عند فيلسوف "الغابة السوداء" مارتين هايدغر. يقول: "حين تحيط عاصفة ثلجية بالملجأ في ظلمة ليل شتوي قارس، فتغطّي كل شيء، تكون اللحظة المهيبة للفلسفة قد حلّت". في عزلة غابة "تودتناوبرغ" البافارية، عاش هايدغر شتاءاته الفلسفية الحقيقية. كان يرى أنّ الفكر لا يولد في دفء المدن بل في برد الجبل، حيث يواجه الكائن العراء والوجود بلا أقنعة.
 
يمكن أن نقول إن الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، من أكثر من أنصت إلى الفصول كأحوالٍ للروح، لا كظواهر طبيعية. استعارته لـ "بيت الشتاء" من أجمل ما كتب، لأنها تجعلنا نرى العلاقة بين "الداخل والمأوى والدفء" كعلاقةٍ شعرية ووجودية في آنٍ واحد.
 
في كتاب "شعرية المكان"، يقدّم الفيلسوف الفرنسي البيت كـ "كونٍ مصغّر للذات"، إذ هو المكان الذي “نحلم فيه بالأمان”، وخصوصًا في الشتاء، حين يُغلق العالم أبوابه علينا. فليس "البيت الشتوي"، عند باشلار، مأوى يقي المرء من البرد، بل هو "حالة تأملية" يعيش فيها الكائن عودةً إلى أصله الدافئ، إلى رحم اللغة والذاكرة. إنه المكان الذي تسكن فيه الحميمية، حيث تصبح النار والمدخنة والمصباح رموزًا لحرارة الوجود الإنساني أمام العراء الكوني.
 
كتب باشلار في أحد المقاطع المدهشة من كتاب "شعرية المكان": "على أيّ حال، ما وراء البيت المسكون، فإن الكون الشتوي هو كون مبسط. إنه لا-بيت على غرار ما يتحدث الميتافيزيقي عن لا-أنا.
 
من البيت إلى لا-بيت تنتظم بسهولة كل التناقضات. في البيت، كل شيء يتمايز، يتكاثر. في قلب الشتاء، يُعيد البيت خلق عالمٍ داخليّ صغير، عالمٍ دافئ في مواجهة برد العالم الكبير. من الشتاء، يتلقى البيت مخزونًا من الحميمية، ودقائقَ من الخصوصية.
 
في العالم خارج البيت، يمحو الثلج الآثار، ويشوّش المسالك، ويخمد الأصوات، ويقنع الألوان. نحس بتأثير نفي كوني من خلال البياض الشامل. حالم البيت يعرف كل هذا، يحس بكل هذا، ومن خلال تناقص كينونة العالم الخارجي يختبر زيادة في كثافة كل قيم الحميمية".
 
بهذا المعنى، يبدو أن باشلار يجعل من الدفء استعارة للخيال نفسه، فالخيال، كما الدفء، لا يُرى، لكنه يجعل العيش ممكنًا. البيت الشتوي هو صورة الفكر المتأمل، والخيال المبدع، صورة الكتابة نفسها حين تنسحب من الخارج لتبني بيتها من الكلمات.
 
 
 
عن: " الجسرة الثقافية "