خالد خالص وانطلاقا من هذا المنظور، تكتسي دراسة الصياغة التشريعية لمشروع القانون رقم 66.23 المتعلق بتنظيم مهنة المحاماة أهمية خاصة، بالنظر إلى الدور الدستوري لهذه المهنة في ضمان الحق في الدفاع والمحاكمة العادلة. وتكشف القراءة النقدية لهذا المشروع عن وجود اختلالات بنيوية في الصياغة، لا تقتصر على الجانب الشكلي، بل تمس وضوح القاعدة القانونية وقابليتها للتطبيق، وقد تفضي إلى إشكالات تفسيرية وقضائية ودستورية.
وتسعى هذه الدراسة إلى إبراز هذه الاختلالات من خلال الوقوف على الخلل البنيوي في الصياغة التشريعية، وبيان خطورته على مبدأ الوضوح واليقين القانوني، مع تقديم أمثلة دالة، واقتراح صيغة نقدية قابلة للإدراج في النقاش الدائر حاليا، وصولا إلى طرح حل تشريعي يقوم على إعادة بناء هندسة النص، واستخلاص خلاصة أكاديمية تركيبية.
أولا- خلل بنيوي في الصياغة
يستخلص من مشروع القانون 66.23 بأن هنالك خلل بنيوي في الصياغة؛ إذ يلاحظ في عدد من مواده بأن النص يمتد على صفحة كاملة أو أكثر ويجمع بين أحكام متعددة، مساطر، استثناءات، آجال، سلطات، وآثار قانونية في مادة واحدة؛ ويصاغ بأسلوب سردي تتابعي أقرب إلى نثر إنشائي، أو تقرير إداري، أو "قصة تنظيمية"، وليس مادة قانونية بالمعنى التقني. وهذا يشكل انحرافا عن قواعد الصياغة التشريعية الرصينة.
ثانيا: لماذا يعد هذا خللا تشريعيا خطيرا؟
المادة القانونية يجب أن تكون: محددة، موجزة، قابلة للفهم المباشر، وقابلة للتطبيق دون تأويل موسع، بينما المادة الطويلة السردية تربك المخاطب بالنص، تضعف اليقين القانوني، وتفتح الباب لاجتهادات متناقضة ليبقى المبدأ الدستوري المعني هو الأمن القانوني ووضوح القاعدة القانونية.
في الصياغة السليمة تنظم القاعدة في مادة والمسطرة في مادة أخرى والجزاء في مادة مستقلة. أما في المشروع فإننا نجد: القاعدة + المسطرة + الاستثناء + الطعن + الآجال وكلها في مادة واحدة مطولة. وهذه المنهجية تربك التطبيق القضائي وتفرغ مبدأ التدرج التشريعي من مضمونه.
من القواعد المستقرة في الصياغة هي أن لكل مادة حكم قانوني واحد أو أحكام مترابطة مباشرة بينما نجد مواد تتناول اختصاصات، ثم إجراءات، ثم آجالا، ثم طعنا قضائيا، في نص واحد ممتد. وهذا عيب شكلي قد يثار غدا كدفع مستقل حول دستورية القانون أمام محكمة الموضوع ليصل أمام المحكمة الدستورية إذا ما تم اعتماد مشروع القانون التنظيمي رقم 35.24 المتعلق بالشروط والاجراءات لتفعيل الدفع بعدم دستورية القوانين.
تقحم الصياغة المطولة التفصيلية المشرع في تفاصيل تنظيمية تفترض أن تترك للأنظمة الداخلية أو المراسيم وهو ما يشكل تضخما تشريعيا غير مبرر.
ثالثا: أمثلة دالة
توجد مواد في المشروع تبدأ بتحديد الاختصاص، ثم كيفية الممارسة، ثم كيفية التبليغ، ثم آجال الطعن، ثم جهة الطعن، ثم آثار الطعن… وكل ذلك في فقرة واحدة متصلة، دون ترقيم أو تفكيك وهو أسلوب لا ينسجم مع تقنية التشريع ولا يخدم لا القاضي ولا المحامي ولا المواطن.
رابعا: الحل التشريعي المقترح
تقتضي المعالجة الصحيحة ضبط المفاهيم وتفكيك المواد الطويلة إلى مادة للاختصاص، مادة للمسطرة، مادة للآجال، مادة للطعن، اعتماد ترقيم فرعي (مكرر / فقرة أولى، ثانية…) عند الضرورة، وحذف العبارات التفسيرية والإنشائية غير المعيارية.
إن خلاصة ما وقع في مشروع 66.23 ليس مجرد ضعف صياغي، بل خلل في فلسفة التشريع وانتقال غير محمود من "النص القانوني" إلى "النص السردي".
مثال للاستدلال (لا على سبيل الحصر): تعديل عنوان الفرع الثاني "مهام المهنة"
يلاحظ أن عنوان الفرع الثاني ورد بصيغة "مهام المهنة"، غير أن الأنسب، من زاوية الصياغة التشريعية والدقة المفاهيمية، هو استبداله بعنوان "اختصاصات المحامي"
ذلك أن التمييز بين مفهومي المهام والاختصاصات يعد تمييزا جوهريا في الصياغة القانونية؛ إذ تحيل المهام، في الغالب، على مدلول وصفي أو أخلاقي عام، قد يشمل الواجبات والسلوكيات المهنية، في حين تعد الاختصاصات مفهوما قانونيا دقيقا، ينشئ مجالا محددا - وأحيانا حصريا - لممارسة المهنة، وتترتب عنه آثار قانونية واضحة.
وبالرجوع إلى مضمون المواد 33 وما يليها، يتبين أنها تنظم أعمالا قانونية محددة، من قبيل تقديم الاستشارة القانونية، وتحرير العقود، والتمثيل والنيابة، والتحكيم والوساطة، وهي أعمال تندرج بلا خلاف ضمن الاختصاصات المهنية للمحامي، لا في إطار مجرد مهام عامة.
وعليه، فإن عنوان "مهام المهنة" لا يعكس بدقة طبيعة المقتضيات الواردة تحته، في حين أن اعتماد عنوان "اختصاصات المحامي" ينسجم مع مضمون النص، ويحترم قواعد الصياغة التشريعية السليمة القائمة على التطابق بين العنوان والمحتوى.
ومن جهة أخرى، يلاحظ أن ترتيب هذه الاختصاصات يقتضي اعتماد تسلسل منطقي ووظيفي يعكس تطور ممارسة المهنة، وذلك بالانطلاق من الأعمال الوقائية (الاستشارة، تحرير العقود، الصلح)، قبل الانتقال إلى التمثيل والمؤازرة القضائية، باعتبارها مرحلة لاحقة ومآلا استثنائيا للنزاع.
ويكرس هذا الترتيب الدور الوقائي للمحامي، ويواكب التوجهات الحديثة للتشريع المقارن التي توسع مفهوم المهنة ليشمل تحقيق الأمن القانوني والاستقرار التعاقدي.
وبناء عليه، يقترح اعتماد الصيغة التالية: بالنسبة لعنوان الفرع الثاني: اختصاصات المحامي
ويستحسن إعادة ترتيب المواد من النصح والاستشارة والعقود، مرورا بالتمثيل الإداري ووسائل الحل البديل، وصولا إلى المؤازرة القضائية.
وتكمن مزايا هذه الهيكلة، على سبيل المثال لا الحصر، في: انسجام العنوان مع المضمون التشريعي، عكس التسلسل الوظيفي الطبيعي لممارسة المهنة:
وقاية ← تنظيم ← تمثيل ← حل بديل ← نزاع ← قضاء ←...
كما أن هذه الهيكلة تبرز الدور الوقائي للمحامي قبل الدور القضائي، وتسهل الإحالة التشريعية والتطبيق العملي، وتواكب قواعد الصياغة التشريعية الحديثة والتشريع المقارن.
الخلاصة:
إن تجاوز الاختلالات التي تشوب المشروع يستدعي إعادة بناء هندسته على أساس ضبط المفاهيم وتفكيك المواد المطولة، وترتيب الأحكام وفق منطق تشريعي واضح يضع الصياغة في خدمة الوظيفة الدستورية للمهنة، ويعيد الاعتبار لجودة التشريع كشرط لنجاعة القانون وشرعيته.
وإذا تم الوقوف في هذه المرحلة على بعض اختلالات الصياغة التشريعية، فإن قراءتي النقدية اللاحقة لمشروع القانون المنظم لمهنة المحاماة ستنصرف إلى مناقشة القضايا الجوهرية المرتبطة بمكانة مهنة المحاماة داخل المنظومة الدستورية، وعلى رأسها استقلالية المحامي، وضمانات حصانته، وطبيعة علاقته بمختلف السلط، وآليات حمايته أثناء ممارسة مهامه، وشروط الممارسة المهنية، وكرامة المنتمين إلى هيئة المحاماة والعديد من المواد الأخرى.
ذلك أن الغاية من هذا العمل ليست هي الانخراط في جدل إجرائي ضيق، وإنما الانتقال بالنقاش إلى مستواه الحقيقي، باعتباره نقاشا حقوقيا ومؤسساتيا حول موقع المحاماة في دولة القانون، ودورها في حماية الحقوق والحريات وضمان المحاكمة العادلة.
خالد خالص، دكتور في الحقوق، محام بهيئة المحامين بالرباط، مقبول للترافع أمام محكمة النقض