العسبي: صديق مصري كبير ودعنا.."فيلسوف السينما المصرية" داوود عبد السيد

العسبي: صديق مصري كبير ودعنا.."فيلسوف السينما المصرية" داوود عبد السيد لحسن العسبي ( يمينا) والراحل داوود عبد السيد
أسجل بداية أن من كان له الفضل في أن أتعرف على الراحل الكبير داوود عبد السيد بالقاهرة هو الأخ والصديق (ورفيق الطريق) الناقد السينمائي المغربي والكاتب مصطفى المسناوي رحمه الله. مثلما كان له الفضل أيضا في أن يعرفني براحل مصري آخر كبير توفي منذ أيام، صاحب منشورات "ميريت" محمد هاشم الذي زرت أكثر من مرة مقر مؤسسته بوسط القاهرة (غير بعيد عن ميدان التحرير وعن ميدان طلعت حرب).
رحم الله الجميع.. كم يمتد مقعد الغياب بالنسبة للصحب يا دنيا..
داوود عبد السيد مصري مختلف.. تكاد تقول إنه "ليس مصريا" بمعنى المزاج العام للمصري النَّزَّاعُ أكثر نحو الحيوية في الردود والحمية في المواقف والتعصب للهوية أحيانا بشكل مبالغ فيه.. 

داوود عبد السيد فيه طراوة النيل وهدوءه وفتنة انسيابيته في صمت الأزل.. فهو أقرب لأبي الهول.. عميق الرؤية إلى وقائع الدهور وطبائع الناس.. قارئ جيد للشخصية المصرية بشكل يكاد يكون متفردا عن باقي من عرفتهم من صناع المعنى ببر مصر.. له تواضع العارفين ويقين المؤمنين وصلابة النساك.. فيه كثير من الإمام الشافعي (ليس بالمعنى الفقهي الديني) بل بالمعنى الفلسفي والسلوكي والإبداعي..

داوود عبد السيد ابن الحارة المصرية، تلك التي تصنع المعنى في عيون بَنِيهَا بدون تجمل ولا تكلف ولا ادعاء أو كذب على الذات.. كان مُنصتًا جيدا (بل معديا أحيانا) بهدوئه الذي يصدر عنه، كما لو أنه يتأمل العالم من قارة معنى آخر بعيد.. أعتقدها قارة الشبع بالحياة.. فالرجل كان غنيا بالتجربة التي عبرها في دروب مصر، حيث خبر الناس والأماكن، وتَمَثَّلَ السر الكامن الذي صنع "المصري" كهوية متمايزة ضمن مختلف التجارب البشرية عبر العالم.. فكان ابن النيل بلا شوفينية ولا نرجسية أيضا..

لهذا السبب كان أقل المخرجين السينمائيين من جيله الذي أخرج أفلاما طويلة (تسعة أفلام في 40 سنة).. لكنها أفلام باقية، مؤسسة، عميقة، مستفزة وفاتنة.. 

من يستطيع نسيان فيلم "الكيت كات" بطولة محمود عبد العزيز، أو فيلم "رسائل البحر" (الذي هو قصيدة عن مدينة الإسكندرية) بطولة آسر ياسين، أو فيلم "أرض الخوف" الذي هو محاكمة للإستبداد بطولة أحمد زكي، أو فيلم "مواطن ومخبر وحرامي" الذي هو صراع بين المعاني والقيم في بر مصر بطولة صالح عبد الله وهند صبري وخالد أبوالنجا.. فهي جميعها تطرح بسلاسة فنية بعضا من أعقد أزمة التحولات التي عاشها الفرد المصري في السبعينات والثمانينات والتسعينات.. بلغة السينما لا بلغة الخطابة التي للأسف تَفَّهَتْ الكثير من المنتج السينمائي بمصر منذ سنوات..

في آخر حوار له سنة 2022 مع يومية "المصري اليوم" بعد نيله أرفع جوائز التقدير التي تقدمها الدولة المصرية لصناع المعنى وصناع الفكر والثقافة بها (جائزة النيل)، أطلق جملة قفل تلخص الكثير من حال ليس أهل مصر فقط بل كلنا نحن بلاد العرب، جوابا عن سؤال: كيف ترى المجتمع المصرى؟، حيث قال:
- أراه «ملخبط»، شديد التطرف من جهة، وشديد التساهل من جهة أخرى.. طبقة تشعر أنها تعيش فى فلوريدا، وطبقة تشعر أنها تعيش فى قندهار.
رحم الله ابن النيل الطيب داوود عبد السيد..