طارق بنكرعي أبو نور: الإرهاب الروحي 

طارق بنكرعي أبو نور: الإرهاب الروحي  طارق بنكرعي أبو نور، إمام خطيب، رئيس معهد التعليم العالي الإسلامي بباريس
دون الخوض في تعريفٍ اصطلاحي قد يُلهي عن المقصود، فإن الإسلام ـ ذلك الدين القَيِّم الشامل ـ من أعظم مقاصده تحقيق الأمن الروحي، قال تعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾.
 
وقد تم بسط القول في مقالاتٍ ومقاماتٍ سابقة عن خطورة الإرهاب الفكري، الذي ينطلق من شذوذٍ في الاعتقاد، وانحرافٍ في الأخلاق، لينتهي إلى كراهية المخالف واقصائه.
 
وتارةً يتستّر هذا الإرهاب خلف شعارات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتارةً خلف مفاهيم الولاء والبراء، مع بيان الفرق الجوهري بين هذه المفاهيم في أصولها الشرعية، وبين توظيفها في خطابٍ إرهابيٍّ يهدف إلى استقطاب الأتباع، وتطويعهم، وطمس هويتهم، وتعطيل قدرتهم على التمييز.
 
وذلك التمييز هو العقل، مناط التكليف، وسرّ خصوصية الإنسان المستخلف.

غير أنّ الإرهاب قد يتخذ شكلاً أخطر وأعمق، إذ لا يقف عند حدود الفكر، بل ينفذ إلى جوهر الإنسان وروحه.

قال الحق سبحانه حكايةً عن فرعون: ﴿لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين﴾، وقال في موضع آخر: ﴿لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين﴾.
 
لقد كان الإرهاب الفرعوني يستهدف الأرواح قبل الأجساد؛ أراد من الناس أن يعبدوه من دون الله، وتوعّد من خالفه، ولم يُذعن له قلباً وروحاً، بأشدّ العذاب وأبشع التنكيل.
 
وكلُّ من يسعى إلى حمل الناس على الولاء الروحي والقلبي له، بقوة الوعيد والتخويف، لا محالة يمارس شكلاً من الإرهاب الروحي.
 
في المقابل، يقدّم لنا الوحي نموذجاً نقيضاً، على ألسنة الأنبياء والأولياء:
قال الخليل إبراهيم عليه السلام: ﴿فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم﴾.
وقال عيسى عليه السلام: ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾.
وقال تعالى في حق سيد الوجود، الرحمة المهداة، ﷺ ﴿فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾.
فقد صدّر الحق سبحانه الآية بمدح حبيبه، وتأكيد شمائله، بوصفها تجلّياً للرحمة، قبل أن يقرّر حقيقةً إنسانيةً ثابتة: أن النفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها، والنفور ممن أساء إليها.
 
وهذا النبي ﷺ ـ صاحب السر الأعظم والحقيقة العظمى ـ نفى الله عنه الغلظة والجفاء، وأثبت له الرحمة واللين، وهما النقيضان الصريحان للإرهاب الروحي.

بل إن الحق يربّي حبيبه بالجمال، ويعلّمنا أن الاتباع ـ وهو واجب له ﷺ ـ لا يُنال بالإرهاب، وإنما بالمحبة الناشئة عن جمال الخصال وكمال الشمائل.
 
وهكذا فتح الرسول الأعظم القلوب بجماله؛ بنظرةٍ تُغني، وتشفي، وتُرقي. قال من رآه: ما هذا بوجه كذّاب!

وقال آخر:
لما نظرتُ إلى أنواره سطعت
وضعتُ من خيفتي كفّي على بصري
خوفاً على بصري من حسن صورته
فلستُ أنظره إلا على قدري
أنوارُ من نوره في نوره غرقت
والوجهُ منه طلوعُ الشمس والقمر
 
وهكذا كان ورثة سره ونوره وهديه؛ تسبق إشارتُهم عبارتهم، فيحبهم من خالطهم، ويهتدي بلطفهم، ويرتقي دون عنفٍ ولا إكراه.

وقد سُئل رسول الله ﷺ عن خير الجلساء، فقال بما معناه:

من ذكّركم اللهَ رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكّركم الآخرة عمله.

فكانت النظرة هي المدخل والباب: «أولياء الله الذين إذا رُؤوا ذُكر الله».

وهي نظرة القلب الصادق، الذي يُدرك نور الشيخ الوارث المحمدي، إدراكاً لا لبس فيه، كما تُدرك الشمس في وضح النهار؛ شيخٌ ينهضك حالُه، ويدلّك على الله مقالُه.
 
قال ابن عطاء الله السكندري في لطائف المنن:

«ليس شيخك من سمعتَ منه، وإنما شيخك من أخذتَ عنه، وليس شيخك من واجهتك عبارته، وإنما شيخك الذي سَرَت فيك إشارته، وليس شيخك من دعاك إلى الباب، وإنما شيخك من رفع بينك وبينه الحجاب، وليس شيخك من واجهك مقاله، وإنما شيخك الذي نهض بك حاله.

شيخك من أخرجك من سجن الهوى، وأدخلك على المولى، وما زال يجلو مرآة قلبك حتى تجلّت فيها أنوار ربك، وسار بك حتى وصلت، ثم لم يزل محاذياً لك حتى ألقاك بين يديه».
 
ولا يدلّ على الله في زمن الفتن إلا من أكرمه الله بمددٍ من الجمال المحمدي؛ يُحبّب الله إلى خلقه، ويحبّب خلقه إلى الله، بلا كللٍ ولا ملل، يُبشّر ولا يُنفّر، ويزرع الأمل في القلوب بعد يأسها، لا يريد من أحدٍ جزاءً ولا شكوراً.
 
الزمن الفرعوني قابله الحق باللين الجمالي: ﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى﴾.

وفي ذلك ردٌّ بيّن، وعبرةٌ جليّة، على من اتخذ من “الشوكة” و“التصريف” و“التخويف” و“الإرهاب” أساساً لدعوته، ووسيلةً لفرض الولاء الروحي له، زاعماً أنه الطريق الأوحد إلى الحق دون سواه.
 
وقد علّمنا شيوخنا أن الأنوار لا تتزاحم، وأن من قال: أنا، فليس على شيء، وأن الحق لا يُعرف بكثرة الأتباع، وإنما يعرف بالتجريد والصدق.

ومن ألبسه الله لباس المسكنة والخضوع، فقد فُتح له باب القبول.
 
اللهم ثبّتنا على العهد، وعلى صراطك المستقيم، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، وأحسن ختامنا.