رفض قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية، بشكل قاطع، مشروع القانون رقم 59.24 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي، معتبراً أنه يشكل تراجعاً خطيراً عن المكتسبات التاريخية للجامعة العمومية، وينسف منهجية المقاربة التشاركية، ويؤسس لمنطق حكومي انفرادي قائم على فرض الأمر الواقع في ورش إصلاحي استراتيجي.
وجاء هذا الموقف عقب اجتماع عقده القطاع لتدارس مستجدات المشروع، ولاسيما ما شاب مسار إعداده من اختلالات منهجية وغياب للتشاور، وما انتهت إليه مناقشته داخل اللجنة الدائمة المختصة بالبرلمان، حيث سجّل الحزب، بقلق بالغ، إصرار الحكومة على تمرير النص رغم رفضها لجميع التعديلات الجوهرية التي تقدم بها فريق حزب التقدم والاشتراكية.
واعتبر القطاع أن هذا التوجه الحكومي يعكس منطقاً إقصائياً يضرب في العمق مبدأ التشاور والتوافق، ويكرّس مقاربة تسليعية وتبضيعية للتعليم العالي بعقلية مقاولاتية محضة، قائمة على الهيمنة العددية بدل الحوار الوطني المسؤول حول مستقبل الجامعة المغربية.
وأكد قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية أن أي إصلاح حقيقي لمنظومة التعليم العالي والبحث العلمي يجب أن يستند إلى مقتضيات دستور المملكة، ولا سيما الفصل 31، وإلى القوانين الإطار ذات القوة الإلزامية، وعلى رأسها القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، والقانون الإطار رقم 50.21 بشأن إصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية، فضلاً عن التراكمات الإيجابية التي جاء بها القانون رقم 01.00 المنظم للتعليم العالي.
كما شدد على ضرورة استحضار التقارير المرجعية الصادرة عن المؤسسات الدستورية وهيئات الحكامة، وفي مقدمتها المجلس الأعلى للتربية والتكوين، والمجلس الأعلى للحسابات، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وتقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، مبرزاً أن الجامعة العمومية ليست مجرد فضاء للتكوين، بل مرفق عمومي استراتيجي، ورافعة أساسية للتنمية، وركيزة للسيادة الوطنية، وفضاء لترسيخ قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
وسجل القطاع، في هذا السياق، أن مشروع القانون 59.24 يمس جوهر استقلالية الجامعة ووظيفتها المجتمعية، من خلال التراجع عن عدد من المكتسبات، ورفض التعديلات التي كان الهدف منها تحصين الطابع العمومي والديمقراطي للجامعة، وصون حقوق الأساتذة والطلبة والموظفين، وحماية المجانية، وتعزيز حكامة البحث العلمي.
وأوضح البلاغ أن التعديلات التي تقدم بها الفريق النيابي لحزب التقدم والاشتراكية ارتكزت على جملة من المبادئ الأساسية، في مقدمتها صون السيادة الأكاديمية الوطنية، عبر عدم تخويل مؤسسات التعليم العالي الخاص صلاحية تحضير وتسليم شهادات معترف بمعادلتها للشهادات الوطنية، وإسناد اختصاص إبداء الرأي في الاعتراف بهذه المؤسسات إلى اللجنة الوطنية لتنسيق التعليم العالي، مع إخضاع الشهادات لتأشير رئيس الجامعة.
كما شملت التعديلات صون استقلالية الجامعة العمومية ووحدتها المؤسسية، من خلال الحذف الكلي لبنيات موازية من قبيل مجلس الأمناء والمؤسسات الرقمية للتعليم العالي ومنتدى رؤساء الجامعات وشبكة رؤساء المؤسسات الجامعية، لما تمثله من تكريس للمركزية والوصاية وإفراغ المجالس الجامعية من أدوارها التقريرية.
ودعا الحزب إلى تقوية الديمقراطية الجامعية عبر توسيع اختصاصات مجلس الجامعة وضمان تمثيلية حقيقية للأساتذة الباحثين المنتخبين، مع التنصيص على تمثيلية ثلاثة أساتذة عن كل مؤسسة جامعية، بما يعزز استقلالية القرار الجامعي والمشاركة الفعلية لمكونات الجامعة.
وشددت التعديلات أيضاً على حماية الحقوق والحريات الجامعية للطلبة، عبر التنصيص الصريح على حقهم في تنظيم الأنشطة الثقافية والرياضية والفنية داخل الفضاء الجامعي، وحقهم في التنظيم والعمل الجمعوي والدفاع عن مصالحهم، مع إمكانية استفادة الجمعيات القانونية من الدعم العمومي.
كما دعت إلى مأسسة وتنظيم الشعب الجامعية بهياكل واضحة، وترسيخ مبدأ التجميع والانسجام داخل المنظومة الجامعية من خلال إدماج مؤسسات التعليم العالي غير التابعة للجامعات داخل الجامعات القائمة أو جامعات جديدة في أجل محدد، حفاظاً على وحدة الفضاء الجامعي ومصداقيته الأكاديمية.
وفي ما يخص التعليم العالي الخاص وغير الربحي، طالبت التعديلات بتأطير هذه المؤسسات عبر إلزامها بالتوفر على هيئة تدريس قارة مؤهلة، وتعزيز الحكامة الأكاديمية بتسييرها من طرف أستاذ للتعليم العالي يساعده عدد محدد من النواب وكاتب عام.
وأكد الحزب، في هذا الإطار، على ضرورة حماية مجانية التعليم العالي العمومي، عبر حذف كل أشكال الأداء المرتبطة بالتوقيت الميسر، والفصل الواضح بينه وبين التكوين المستمر، تفادياً لأي التفاف تدريجي نحو تسليع المعرفة.
كما شدد على تقوية منظومة البحث العلمي من خلال اقتراح إحداث وكالة وطنية لتمويل مشاريع البحث العلمي، وتوسيع اختصاصات المجلس الوطني للبحث العلمي، بما يمكنه من لعب دور فعلي في التوجيه الاستراتيجي والحكامة والتمويل ضمن رؤية وطنية موحدة.
وأكد قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية أن مشروع القانون 59.24 يشكل انتكاسة حقيقية لمسار الإصلاح، ويقوض أسس الثقة في السياسات العمومية، ويهدد السلم الجامعي، ويفتح المستقبل على مخاطر غير محسوبة العواقب.
كما جدد الحزب دعوته الصريحة إلى التحلي بالمسؤولية السياسية، والكف عن فرض الأمر الواقع، عبر السحب الفوري للمشروع وإعادته إلى طاولة الحوار الجاد والمسؤول، مؤكداً أن أي إصلاح حقيقي يقتضي رؤية وطنية شمولية، وإشراكاً فعلياً لمختلف الفاعلين، وتعبئة وطنية واسعة قوامها جامعة عمومية قوية، وبحث علمي فاعل، يضع الإنسان في صلب كل مشروع إصلاحي ديمقراطي حقيقي، بعيداً عن منطق الارتجال والتدبير الأحادي.