خالد أخازي:  حين يُسجِّل حمد الله… تتذكر آسفي جراحها ولا تنسى حلمها

خالد أخازي:  حين يُسجِّل حمد الله… تتذكر آسفي جراحها ولا تنسى حلمها خالد أخازي
يأبى حمد الله المسفيوي، الخارج من رحمِالموج والملح، إلا أن يعيد ترتيب الفرح في قلوب المغاربة من الدوحة... كان يفرحنا.... يمد لنا جذوة الفخر بين العرب، وكانت صورة بائعة الفخار وسط الموج عالقة بذاكرة الجراح والأحزان.
 حمد الله لا يفعل طلبا للنجومية، بل وفاء للوطن والانتماء للبحر وأحلام المحيط،ولمسار طويل بدأ من مدينة تتعثر في كل محاولاتها للخروج من التهميش... مدينة تعرف جيدا معنى الجرح المؤجّل... أبناء آسفي يصنعون الفرحة رغم طراوة الجرح، ونزيف مدينة خذلها أيضا بعض أبنائها... وظلت تقاوم...وسط جغرافيا متناقضة... الغنى الذي يرحل بعيدا تاركا البؤس سما في الهواء.
حمد الله، وهو في لحظة احتفال عابرة، يذكرنا بحقيقةٍ موجعة: من أفرحنا اليوم هو ابن آسفي الجريحة… المدينة التي ما تزال تدبر بصبرٍ ثقيل حزنها العميق 
حين لامست قدمه الكرة وسكنت الشباك، لم يكن ذلك مجرد هدف. كان قبس ضوء خرج من ذاكرة مدينة اعتادت أن تُذكَر في نشرات الأزمات أكثر مما تُذكَر في نشرات الفرح. كان الهدف ثم الهدف بمثابة اعتراف غير معلن بأن المدن المهمّشة المظلومة لا تموت، لكنها تستنزف ببطء، حتى يصير الحلم فيها ذات تكلفة نفسية واجتماعية. آسفي، هذه المدينة التي يحتضنها دفء المحيط والتاريخ، لم تبخل يوما برجالها... وأعلامها وأطرها...لكنها، في المقابل، بخست كثيرا في حقها في التنمية والإنصاف.. بل في الحد الأدنى من الحماية... مدينة أرهِقت بالبطالة، وتعايشت مع الفقر الهيكلي كقدر محتوم ، ودفعت ثمن فوضى تدبيرية جعلت من الفيضانات نكبة اجتماعية لا مجرد حادث عابر. هناك، حيث يُطلب من الناس أن يصبروا أكثر مما يطلب من المسؤولين أن يحاسبوا، يتحول الصبر إلى شكل آخر من أشكال المقاومة... وحمد الله صنع فرحتنا... وفخر محتده.
فكل هدف يسجله حمد الله هو إنعاش للذاكرة... صفعة موجّهة إلى كل من اغتالوا أحلام هذه المدينة، أو تعاملوا معها كجغرافيا الاستهلاك لا الانتاج... في خرائط السياسات العمومية. هو يقول، دون خطابة، إن آسفي قادرة على أن تنجب رجالات يصنعون الحلم، متى سمح للحلم أن يكبر في تربة الإنصاف والعرفان. وإن الإهمال، مهما طال، لا ينجح دائما في قتل الموهبة ولا الأحلام. في المدرجات البعيدة، حيث ترتفع الأضواء وتتعالى الهتافات، كانت آسفي حاضرة بصمتها العميق...
 حاضرة في ذاكرة الطفل الذي تمرن ذات يوم في مكان قاس.... كثير من التفاصيل الصغيرة، غير المرئية، هي التي تصنع لحظات الفرح الكبرى.
الرياضة، حين تلامس جوهرها الإنساني، تتحوّل إلى مرآةٍ فاضحة للواقع. وحمد الله، وهو يتألّق خارج الحدود، يعيد طرح سؤالٍ مؤلم: لماذا لا نحتفي بمدننا إلا عبر نجاح أبنائها في المنفى الرياضي أو المهني؟ ولماذا لا تتحول هذه القصص الفردية إلى سياسات تُنقذ الجماعات المحلية من التهميش بدل الاكتفاء بالتصفيق؟ آسفي ليست جغرافيا فقط. هي ذاكرة عمال أنهكهم الانتظار، وشباب يتقاسمون المقاهي والأحلام المؤجلة، وبيوت بسيطة تواجه المطر بلا حماية. وحين تغرق شوارعها، لا يغرق الإسفلت وحده، بل تغرق معه ثقة الناس في تدبير لم يصغِ جيدا لنبض المكان. ومع ذلك، لا تزال المدينة تنجب من يذكر الوطن بأنها حية.
ليس المطلوب أن نرفع حمد الله إلى مرتبة الأسطورة، بل أن نقرأ رمزية ما فعل اليوم. أن نفهم أن الاستثمار الحقيقي يبدأ من الإنسان، وأن المدن لا تقاس بعدد بناياتها، بل بعدد الفرص التي تمنحها لأبنائها. كل هدف هو سؤال معلق: ماذا فعلنا كي لا يبقى الحلم استثناء؟ آسفي اليوم في حاجة إلى ما هو أكثر من الاحتفاء العابر. في حاجة إلى مصالحة مع ذاتها، وإلى إرادة سياسية تنهي منطق التدبير الترقيعي. في حاجة إلى عدالة مجالية تعيد للشباب ثقتهم في الغد، حتى لا يظل الفرح خبرا يأتي من الخارج.
ويبقى لحمد الله فضل الإيقاظ. أيقظ فينا الإحساس بأن الألم يمكن أن يتحول إلى طاقة، وأن الذاكرة ليست لعنة بل دفق تميز. علمنا أن الخطر الحقيقي ليس في الجرح، بل في النسيان. لذلك، كلما دوى اسمه في الملاعب، فلنتذكر آسفي. فلنتذكر الشوارع التي تنتظر إنصافا، والبيوت التي تحتاج أمانا، والأحلام التي تبحث فقط عن فرصة. هو سجل، نعم… لكن المعركة الحقيقية ما تزال خارج المستطيل الأخضر. آسفي قد تصنع رجالا يصنعون الحلم والأمل. والدليل يركض، يبتسم، ثم يعود إلى ذاكرة مدينة علمت أبناءها كيف يحولون الجرح إلى معنى. فقط… علينا ألّا ننسى...
شكرا آسفي... سامحينا...
خالد أخازي، كاتب وإعلامي