بمناسبة تخليد الذكرى الخمسين لمأساة الطرد التعسفي، نظم مجلس الجالية المغربية بالخارج، بشراكة مع التجمع الدولي لدعم العائلات ذات الأصل المغربي المطرودة من الجزائر سنة 1975 اليوم الأربعاء 17 دجنبر 2025، لقاءً تواصلياً حضره حقوقيون، إلى جانب فاعلين سياسيين، وعدد من ضحايا هذا الطرد التعسفي.
جريدة "أنفاس بريس" تنشر عرض محمد الشرفاوي، رئيس التجمع الدولي لدعم الأسر ذات الأصول المغربية المطرودة من الجزائرالذي قدم ملخصا عن تقرير التجمع الدولي حول : عملية الطرد الجماعي و التعسفي للمغاربة من الجزائر سنة 1975.
I. السياق التاريخي:
يشكّل الطرد الجماعي للمواطنين المغاربة من الجزائر في ديسمبر 1975، الذي وصفته الصحافة الدولية بـ "المسيرة السوداء"، واحداً من أبرز وأشد الأحداث إثارة للجدل في تاريخ العلاقات المغربية–الجزائرية الحديثة. وقد وقع في سياق من التوتر الثنائي اتسم بالمسيرة الخضراء وقضية الصحراء، حيث طال هذا الإجراء ما يقارب 45.000 أسرة مغربية مستقرة في الجزائر منذ عدة أجيال في بعض الحالات.
رداً على استرجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية عبر المسيرة الخضراء، أقدمت السلطات الجزائرية، تحت رئاسة هواري بومدين، في 8 ديسمبر 1975، ومن دون أي سند قانوني أو دافع معلن أو إخطار مسبق، على طرد المواطنين المغاربة المقيمين منذ عقود على التراب الجزائري . وقد جاءت هذه العملية بشكل مفاجئ عشية عيد الأضحى، لتشمل حوالي 45.000 أسرة، أي ما يقارب 350.000 شخص، "وهو رقم يكاد يوازي عدد المشاركين في المسيرة الخضراء التي نظمها المغرب يوم 6 نوفمبر لاسترجاع الصحراء ".
II. التحليل القانوني وفق التشريع الجزائري:
كان الأمر رقم 66-211 المؤرخة في 21 يوليو 1966 والمتعلقة بوضعية الأجانب في الجزائر، النص القانوني الساري آنذاك، تنظم "شروط دخول الأجانب إلى الجزائر وتنقلهم وإقامتهم وخروجهم» مع مراعاة «الاتفاقيات الدولية أو اتفاقات المعاملة بالمثل». ونصت هذه الأمر خصوصاً على أن «طرد أجنبي خارج التراب الوطني يُتخذ بقرار من وزير الداخلية» (المادة 20)، وأن هذا الإجراء لا يتم إلا في حالات معدودة على سبيل الحصر، وأن «قرار الطرد يجب أن يُبلّغ للمعني بالأمر» (المادة 21)، مع منحه، «بحسب خطورة الأفعال المنسوبة إليه"، مهلة تتراوح بين 48 ساعة و15 يوماً ابتداءً من تاريخ تبليغ قرار الطرد لمغادرة التراب الوطني (المادة 21) .
غير أن تحليل الوقائع يبين أن الطرد:
1. كان جماعياً وموسّعاً، في حين أن القانون يفرض معالجة فردية لكل حالة على حدة.
2. لم يُبلَّغ أيّ من المطرودين المغاربة، وفق الشكل القانوني، بقرار معلّل بالطرد؛ وهو ما يجعل هذه العملية بمثابة تعدٍّ مادي.
3. جرى الطرد بشكل فوري وسريع وجماعي، ما حرم المطرودين من إمكانية التذرع "باستحالة مغادرة التراب الوطني" للاستفادة من الإمكانية المنصوص عليها في المادة 22 من الأمر.
إضافة إلى ذلك، فإن المادة 11 من الدستور الجزائري لسنة 1963 نصّت على أن "الجمهورية تنضم إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". وهذا الإعلان يقرّ في مادته 13 (الفقرة الأولى) أن "لكل شخص الحق في حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود الدولة"، وفي مادته 17 (الفقرة الثانية) أن "لا يجوز تجريد أحد تعسفاً من ملكه".
وعليه فإن عملية الطرد، كما نُفذت من قبل السلطات الجزائرية، تمت في خرق للقانون الداخلي الجزائري، وبالتالي فهي مشوبة بعدم الشرعية .
III. انتهاك الالتزامات الاتفاقية الثنائية:
بموجب اتفاقية الإقامة المبرمة بين المملكة المغربية والجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية والموقعة بالجزائر في 15 مارس 1963، والبروتوكول الإضافي المعدّل والمتمم لها والموقع بإفران في 15 يناير 1969، وهما نصان نافذان في كلا البلدين عند وقوع الطرد، كان للمواطنين المغاربة المطرودين حق "الدخول بحرية إلى التراب الجزائري بمجرد تقديم جواز سفر ساري المفعول"، و"الإقامة والتنقل والاستقرار والخروج منه في أي وقت مع مراعاة القوانين والأنظمة المتعلقة بالأمن العام" (المادة الأولى من الاتفاقية).
وكان لهم الحق المشروع في أن يُعاملوا "وفقاً لمبدأي المعاملة بالمثل وعدم التمييز" (المادة 2 من الاتفاقية) .
كما نصّت المادة 5 من الاتفاقية ذاتها على أن لهم «الحرية الكاملة في ممارسة جميع الحقوق الاقتصادية، والمساواة الضريبية، وحق التملك العقاري، ومزاولة المهن المنظمة".
وجاءت صياغة المادة 5 الجديدة بموجب البروتوكول التعديلي لتضمن، على أساس المعاملة بالمثل:
1. الحرية الكاملة في ممارسة الحقوق الاقتصادية والمساواة الضريبية.
2. المساواة مع المواطنين فيما يتعلق بمزاولة الأنشطة المهنية والوظائف المأجورة.
3. حرية التملك للمنقولات والعقارات، والانتفاع بها وممارسة جميع حقوق الحيازة والتصرف بنفس شروط المواطنين؛
4. إدارة ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة بجميع الأشكال، سواء مباشرة أو عبر وكلاء .
كما نصت الفقرة الأولى من المادة 5 على أن "أملاك رعايا أي من البلدين الموجودة على تراب الآخر لا يجوز أن تكون موضوعاً لأي إجراء نزع ملكية إلا للمنفعة العامة ووفقاً للقانون»، وهو ما وفر ضمانة خاصة ضد سلب ممتلكات المغاربة المقيمين في الجزائر. كما خوّل آخر فقرات المادة 5 "للسلطات القنصلية المغربية» مهمة «حماية والدفاع عن مصالح رعاياها وفقاً لقواعد وأعراف القانون الدولي".
IV. التكييف في إطار القانون الدولي
إن الطابع الجماعي وغير المعلل وغير القانوني لعمليات الطرد ثابت من الناحيتين القانونية والواقعية، ويقتضي توصيف عدد من الانتهاكات في ضوء القانون الدولي. فقد نصت الفقرة الأولى من المادة 9 من مشروع مقالات لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة بشأن طرد الأجانب على أن «الطرد الجماعي يُقصد به طرد أجانب كجماعة".
وقد تبنّت الاجتهادات الدولية تعريفات مشابهة، منها ما صدر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي اعتبرت أن «الطرد الجماعي يُفهم على أنه كل إجراء يُرغم أجانب كجماعة على مغادرة بلد ما، إلا إذا استند إلى فحص معقول وموضوعي لكل حالة فردية ضمن تلك الجماعة" .
أما نزع ملكية ممتلكات المغاربة المطرودين من قبل الدولة الجزائرية فيُعد عملاً غير مشروع بمقتضى القانون الدولي، وذلك لعدة أسباب:
● أولاً، أن المواطنين المغاربة المطرودين لم تُتح لهم، سواء عند الطرد أو بعده، أي إمكانية للطعن في هذه القرارات أو الدفاع عن حقوقهم في الملكية. وقد قضى محكمة المطالبات الإيرانية–الأمريكية في حكمها بتاريخ 3 نوفمبر 1987 في قضية Rankin ضد جمهورية إيران الإسلامية بأن الطرد غير قانوني إذا حرم الأجنبي المعني من فرصة معقولة لحماية مصالحه في الملكية .
● ثانياً، أن المغاربة المطرودين والمسلوبة أملاكهم وجدوا أنفسهم محرومين بشكل نهائي من ممتلكاتهم بموجب نص تشريعي صادر عن الدولة الجزائرية. فقد نصّت المادة 42 من القسم رقم 2 المتعلق بالأحكام العقارية من قانون المالية لسنة 2010 بالجزائر على أنه "يُصار إلى تسوية السجلات العقارية من التقييدات التي فقدت طابعها الحالي بسبب انتقال ملكية بعض العقارات إلى الدولة، نتيجة لإجراءات التأميم أو التمليك أو التخلي عنها من قبل أصحابها ".
وهو ما يشكل محاولة لمنح غطاء شرعي زائف، بأثر رجعي، لعمليات السلب، تحت وصف مضلل «تخلي عن الممتلكات»، مما يبيّن الطبيعة المستمرة لهذا الفعل غير المشروع.
V. المسؤولية الدولية والطابع المستمر للانتهاكات
بناءً على ما سبق، فإن طرد المواطنين المغاربة من الجزائر، بصفته فعلاً غير مشروع بموجب القانون الدولي، يُرتب المسؤولية الدولية للدولة الجزائرية. ووفقاً للمادة 2 من مشروع مقالات لجنة القانون الدولي حول مسؤولية الدولة عن الأفعال غير المشروعة دولياً، فإن الطرد وسلب الممتلكات يشكلان أفعالاً غير مشروعة دولياً، لكونها تُنسب إلى الدولة الجزائرية وتمثل خرقاً لالتزاماتها الدولية .
وفي حكمها الصادر في قضية مصنع شورزوف (ألمانيا ضد بولندا) بتاريخ 26 يوليو 1927، اعتبرت المحكمة الدائمة للعدل الدولي أن «من المبادئ الأساسية في القانون الدولي أن خرق الالتزام يترتب عنه واجب التعويض بشكل مناسب، فالتعويض هو النتيجة الضرورية لأي إخلال بتطبيق اتفاقية، دون حاجة إلى النص عليه في الاتفاقية ذاتها ». وتبرز أهمية هذا الحكم، بالنسبة لقضية الطرد، في تناوله لمسألة حماية ممتلكات الرعايا الأجانب بموجب الاتفاقيات الثنائية.
كما أعربت لجنة الأمم المتحدة لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم في سنتي 2010 و2018 عن قلقها إزاء تطبيق المادة 42 من قانون المالية الجزائري لسنة 2010، معتبرة أن هذا القانون قد يؤدي إلى «نزع ملكية ممتلكات مشروعة لعمال مهاجرين مطرودين، ولا سيما العمال المغاربة المطرودين سابقاً»، ودعت الجزائر إلى "اتخاذ جميع التدابير اللازمة لإعادة الممتلكات المشروعة للعمال المطرودين، ولا سيما المغاربة منهم، أو منحهم تعويضاً عادلاً ومناسباً، وفقاً للمادة 15 من الاتفاقية".
VI. سبل الانتصاف وآفاق جبر الضرر:
يثير ثبوت مسؤولية الدولة الجزائرية عن طرد المواطنين المغاربة وسلب ممتلكاتهم، باعتبارهما أفعالاً غير مشروعة دولياً، مسألة سبل الانتصاف الممكنة. ويمكن للمطرودين المغاربة، باعتبارهم ضحايا، سلوك مسارين:
1. تقديم شكايات فردية إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في إطار البروتوكول الاختياري الأول الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، علماً أن الجزائر اعترفت باختصاص اللجنة منذ 12 سبتمبر 1989 ؛
2. تقديم بلاغات فردية في إطار إجراءات الشكاوى لدى مجلس حقوق الإنسان بموجب القرار 5/1، للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
أشكال جبر الضرر التي ينبغي النظر فيها، وفقاً لـ المبادئ الأساسية والتوجيهية بشأن الحق في الانتصاف والتعويض لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان (القرار 60/147)، فينبغي أن تجمع بين:
● الردّ: إعادة حق العودة، واسترجاع أو تعويض الممتلكات؛
● الإنصاف الرمزي: الاعتراف الرسمي، وإجراءات الذاكرة؛
● ضمانات عدم التكرار.
وفي حكمها الصادر بتاريخ 13 سبتمبر 1928 في قضية مصنع شورزوف (المطالبة بالتعويض)، أكدت المحكمة الدائمة للعدل الدولي أن «المبدأ الأساسي، الذي ينبع من فكرة الفعل غير المشروع، هو أن التعويض يجب أن يمحو، بقدر الإمكان، جميع نتائج الفعل غير المشروع، وأن يُعيد الحالة التي كان من المرجح أن تكون قائمة لو لم يُرتكب ذلك الفعل» .