يمثل مسار الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية أحد أكثر التحولات دلالة في تاريخ الأحزاب السياسية المغربية المعاصرة، لأنه يكشف انتقال حزب ذي حمولة تمثيلية ونضالية قوية إلى نمط اشتغال وظيفي، يركز على الاستقرار التنظيمي والتموقع المؤسساتي، أكثر مما يركز على تمثيل المصالح الاجتماعية أو إنتاج مشروع سياسي واضح. فالتمييز بين الحزب التمثيلي والحزب الوظيفي ليس تمييزا أخلاقيا، إذ يقوم الحزب التمثيلي على علاقة عضوية بفئات اجتماعية محددة وعلى شرعية مستمدة من النضال والتراكم الفكري والتنظيمي بينما يقوم الحزب الوظيفي على أداء أدوار محددة داخل النسق السياسي بغض النظر عن عمق تمثيليته أو وضوح مرجعيته الاجتماعية.
لقد تأسس الاتحاد الاشتراكي تاريخيا كحزب تمثيلي بامتياز حمل مطالب ديمقراطية واجتماعية واضحة، وارتبط عضويا بالطبقة العاملة والطبقات الوسطى وبحركات نقابية وحقوقية وشبابية، جعلت منه فاعلا مركزيا في الصراع من أجل الديمقراطية. غير أن هذا الموقع بدأ يتآكل تدريجيا مع تغير السياق السياسي العام ومع اختيارات داخلية أعادت تعريف وظيفة الحزب وموقعه داخل الحقل السياسي.
في هذا الإطار يمكن فهم التحول الذي عرفه الاتحاد الاشتراكي خلال السنوات الأخيرة بوصفه انتقالا من منطق التمثيل إلى منطق الوظيفة، حيث لم يعد الحزب يسائل موقعه الإجتماعي بقدر ما يسائل قابليته للاندماج في التوازنات القائمة.
فالتحولات التنظيمية التي همشت الديمقراطية الداخلية، وأضعفت دور الأجهزة المنتخبة ووسعت منطق التعيين والتزكية ليست مجرد اختلالات تقنية، وإنما هي تعبير عن تصور جديد للحزب باعتباره أداة تدبير لا فضاء صراع سياسي. ومن هذا المنظور أعيد تعريف الشرعية من كونها شرعية نضالية وتمثيلية، إلى شرعية تنظيمية إجرائية تستمد قوتها من السيطرة على الهياكل لا من الاحتكام إلى القواعد.
وهذا التحول لم يتم عبر قطيعة معلنة مع التاريخ بل عبر تفريغ تدريجي لمضمونه. فالتاريخ ظل حاضرا كرمز وخطاب، لكنه غاب كمرجعية فعلية في اتخاذ القرار. ولم تعد الذاكرة النضالية رافعة لإنتاج الاختلاف، حيث تحولت إلى عبء يربك منطق التدبير اليومي، وهو ما يفسر انسحاب عدد من الفاعلين التاريخيين وصعود نمط جديد من النخب التنظيمية، التي ترى في الحزب فضاء وظيفيا للتموقع لا إطارا نضاليا للصراع. وبذلك أصبح الاتحاد غير قادر على إنتاج النخب السياسية، ليصير عكس ذلك أكثر قدرة على إعادة إنتاج النخب التنظيمية المنضبطة وهو مؤشر كلاسيكي على تحول الأحزاب من التمثيل إلى الوظيفة.
غير أن هذا المسار وإن وفر استقرارا تنظيميا نسبيا فإنه يطرح إشكالا بنيويا يتعلق بجدوى الحزب ذاته. فالحزب الوظيفي قد ينجح في البقاء داخل المؤسسات، لكنه يفقد تدريجيا قدرته على التأثير في المجتمع، وعلى تجديد خطابه وقواعده الاجتماعية. وحين يحدث ذلك يصبح الحزب معلقا بين اسم تاريخي لا يؤدي وظيفته الرمزية ووظيفة سياسية لا تستند إلى تمثيل فعلي. وهو وضع يفضي إلى هشاشة مزدوجة هشاشة الماهية، وهشاشة الدور. ومن هنا فإن أزمة الاتحاد الاشتراكي هي أزمة نموذج حزبي انتقل من تمثيل الصراع الاجتماعي والسياسي إلى أداء وظيفة تقنية داخل النسق. وهو انتقال قد يفسر الكثير من مظاهر التآكل التي يعرفها الحزب اليوم.
وعليه فإن السؤال المركزي الذي يفرض نفسه، كيف سوف يستمر الاتحاد الاشتراكي تنظيميا، وهو يفقد تدريجيا قدرته على التمثيل السياسي والاجتماعي؟ فالأحزاب التاريخية تقاس بقدرتها على البقاء و بقدرتها على تجديد وظيفتها التمثيلية داخل المجتمع. وحين تتحول إلى أدوات وظيفية، فإنها قد تضمن استمرارية شكلية لكنها تخسر جوهرها كفاعل سياسي. وهو ما يجعل مستقبل الاتحاد الاشتراكي مرهونا بإعادة فتح هذا النقاش الجوهري حول معنى الحزب ووظيفته قبل فوات الأوان.