منير لكماني: ثروة معلقة

منير لكماني: ثروة معلقة منير لكماني
يطل المشهد كل يوم بوجه مألوف حد القسوة: خيرات معروضة بسخاء، وعيون تحدق من بعيد. مسافة صغيرة في الشكل، هائلة في المعنى، تفصل بين من يملك ومن ينتظر. ليست الحكاية حكاية جوع عابر، بل سردية كاملة عن عالم تعلم كيف يكدس الوفرة، ويتقن في الوقت نفسه صناعة الحرمان. هنا لا نتحدث عن استثناء، بل عن ظاهرة راسخة، تتخفى خلف أرقام وتقارير، بينما أثرها الحقيقي محفور في أجساد بشر فقدوا حقهم البسيط في العيش الكريم.
 
الفقر كوعي مشوه
الفقر لا يكتفي بتفريغ الجيوب، بل يعيد ترتيب العقل. حين يصبح الحرمان حالة دائمة، تتغير زاوية النظر إلى العالم. الاشياء تفقد معناها، والأحلام تصغر حتى تختنق. الإنسان الفقير لا يرى الواقع كما هو، بل كما يسمح له موقعه الهش أن  يراه. هنا يتحول الفقر من وضع إقتصادي الى تجربة وجودية، تعيد تعريف الكرامة والأمل والجدوى.
 
وفرة بلا عدالة
الارض سخية، تمنح بلا حساب. في باطنها كنوز، وعلى سطحها ما يكفي لإطعام أضعاف عدد سكانها. ومع ذلك، يعيش كثير من أبنائها على هامش هذه الوفرة. التناقض فادح: موارد هائلة، وحياة شحيحة. السبب ليس الطبيعة، بل منظومات طويلة من الإستغلال، جعلت الخيرات تتحرك دائما في إتجاه واحد، تاركة أصحابها يتفرجون على نصيبهم وهو يغادر.
 
إقتصاد الإقصاء
بعيدا عن الشعارات، يعمل نظام عالمي صامت، يوزع الأدوار بدقة. دول في موقع الإستفادة، وأخرى محكومة بدور المزود الرخيص. عقود غير متكافئة، أسواق مفتوحة من طرف واحد، وقرارات تصنع في مراكز بعيدة. هكذا يتحول الإقصاء الى سياسة، لا تعلن، لكنها تطبق بحزم، وتعيد إنتاج الفقر جيلا بعد جيل.
 
الهجرة كعرض لا كخيار
حين تسد الأبواب، يصبح الرحيل فكرة خلاص. لا يغادر الناس بدافع المغامرة، بل تحت ضغط الضرورة. الطرق محفوفة بالمخاطر، لكن البقاء أشد قسوة. في الصحارى والبحار، تختبر الحياة حدودها الأخيرة. كثيرون لا يصلون، ومن يصل يكتشف أن المنطق نفسه ينتظره: عمل هش، نظرة دونية، وحق ناقص في الوجود.
 
تطبيع المأساة
الأخبار تتكرر، والأرقام ترتفع، والحس العام يتبلد. الموت الجماعي يتحول الى خبر عابر، يمر بين إعلانين. هذا الإعتياد ليس بريئا، بل مؤشر على خلل عميق في سلم القيم. حين تفقد الحياة وزنها، يصبح كل شيء قابلا للتبرير، حتى أكثر أشكال الظلم فجاجة.
 
سؤال المسؤولية
من السهل تحميل الطبيعة أو القدر المسؤولية، لكن الحقيقة أكثر إزعاجا. ما يحدث نتيجة خيارات بشرية، ونماذج تنمية إقصائية، ورؤى ترى الإنسان رقما في معادلة. التغيير ممكن، لكنه يتطلب شجاعة أخلاقية تعيد الإعتبار لفكرة العدالة، لا كشعار، بل كسياسة ملموسة.
 
العالم كما صنعناه
أي عالم هذا الذي يرى الخيرات ولا يمد يده؟ كيف نقبل بنظام يجعل الحياة إمتيازا لا حقا؟ ومتى ندرك أن ترك هذا الخلل قائما يهدد الجميع، لا ضحاياه فقط؟ أن مواجهة هذه الظاهرة لا تبدأ بالحلول التقنية وحدها، بل بالإعتراف الصريح بأن الكرامة واحدة، وإن العدالة حين تغيب عن طرف، تصير مهددة في كل مكان. هذه الاسئلة ليست فلسفية، بل ملحة، وتجاهلها لم يعد خيارا.