الغالي محمد علي يتفرد شهر دجنبر بوضع استثنائي في الأجندة الحقوقية الدولية، كونه يضم الاحتفاء بيومين عالميين يحملان دلالات رسالية وثقلا حقوقيًا وأخلاقيا عميقًا؛ هما اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة في الثالث منه، واليوم العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من نفس الشهر. إن هذا الموعد السنوي ليس مجرد صدفة أو تزامن بل هو تجسيد للمركزية التي تشغلها هاتان القضيتان في صميم المنظومة الحقوقية الأممية. هذه السنة، يأتي الاحتفاء باليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، الذي يهدف إلى تعميق الوعي بقضايا هذه الفئة المجتمعية ودعم حقوق حامليها، ضمن سياق وطني يعرف مجموعة من الرهانات السياسية والتنموية والاجتماعية والقانونية، لعل أبرزها الأيام التشاورية حول إعداد الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية المندمجة. ولا يقتصر هذا التقليد السنوي على كونه فرصة سانحة لفتح الملفات الحقوقية والقانونية والاجتماعية المرتبطة بالأشخاص ذوي الإعاقة على الصعيدين الوطني والمحلي، وتقييم السياسات العمومية ومدى الإلتقائية والأثر الذي تنتجه في تحسين حياتهم، بل يتجاوز ذلك لاستشراف القضايا المستقبلية الدولية المرتبطة بالثورة الرقمية التي يشهدها العالم، والمغرب في صلب هذه التحولات والتحديات.
تأسيسا على ما سبق، تبرز العديد من الإشكالات من قبيل دمقرطة وأنسنة وتخليق الحداثة الرقمية، للحد من المخاطر التي تعمق التفاوتات، وتكرس التمييز ضد الأشخاص في وضعية إعاقة من قبيل (حماية المعطيات الشخصية، الأمن السيبيراني، الإستغلال، حماية الخصوصية، التنمر والإدمان الرقمي...)، الشيء الذي يطرح عديد الأسئلة من قبيل ضمانات الولوج الرقمي للأشخاص حاملي الإعاقة؟ إلى أي حد تمكّن الرقمنة وتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي من تعزيز "الفعلية" في التمتع بالحقوق لهذه الفئة بالمغرب؟، وما حدود المخاطر التي قد تعيق اندماجهم الرقمي والاجتماعي، خاصة في ظل التفاوتات المجالية بالمغرب؟
الإعاقة والتحول الرقمي: بين ضمانات النفاذ ومخاوف الإقصاء
اكتسـب فهـم العلاقـة بين الإعاقـة والتكنولوجيا الرقمية[1] والذكاء الإصطناعي[2] خـلال السنوات الأخيرة علـى وجـه التحديـد، زخمـا متزايدا في النقاش العام، كون الإطار العام لهذه العلاقة مكفول كحقوق في اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي إعاقة سنة 2006، تحديدا في المواد 9، 14، 16، 19، وبشكل خاص المادة 20 منها[3]، بحيث يرقى وصول الأشـخاص ذوي إعاقـة إلى النفاذ الرقمي والمعرفي، مسـألة من مسـائل حقوق الإنسـان الأساسـية، حيث كانت الأمم المتحدة قد اتخذت منذ ما يقرب من عشرين سنة "إمكانية الوصول الإلكتروني (E-Accessibility)" كشعار للإحتفاء بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة سنة 2006، وهي نفس سنة إقرار الإتفاقية الدولية الناظمة لحقوق ذوي إعاقة، مما يعكس الأهمية القصوى لضمان هذا الحق، ووعياً أمميا استشرافيا لهذه الطفرة العلمية.
فللوهلة الأولى تبدو العلاقة بين الإعاقة والثورة الرقمية المعاصرة ملتبسة، كونها تشكل إحدى نقاط التقاطع الحاسم بين القضايا الإنسانية والعلمية والأخلاقية الأكثر إلحاحاً، وبين أسرع التحولات التكنولوجية والرقمية في تاريخنا المعاصر؛ فالكل يجمع أن العالم يعيش تحولاً رقمياً عميقاً يتجسد في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وزحفها على عديد المجالات العلمية وتأثيراتها الجلية على سلوك الأفراد والمجتمعات، مما يجعل الرقمنة محركا مركزياً في إعادة تشكيل طبيعة التفاعل الإنساني مع محيطه وبيئته، وانعكاسها على أنماط العيش وصولا لتحول ملموس في شكل الخدمات العمومية والخاصة؛ فبفضل انتشار الهواتف المحمولة الذكية والتطبيقات والبرمجيات ناهيك عن التقنيات الحديثة، بدأنا نشهد تحولاً جذرياً في الأدوات المساعدة لذوي الإعاقة، حيث تحولت من حلول ثابتة إلى أنظمة ذكية مرنة قادرة على البرمجة والتكيف مع الاحتياجات الفردية لحاملي مختلف الإعاقات، وبذلك يأتي موضوع الإعاقة في قلب هذا التحول والإنشغال، كونه مجالا تتقاطع فيه إمكانات التكنولوجيا الرقمية كمُيسّر لرفع مختلف الحواجز وتحسين الولوج وصولا للدمج الكلي من خلال المشاركة الإجتماعية، الإقتصادية، الثقافية والسياسية..، باعتبار التكنولوجيات المُعِينَة وسيلة للإستقلالية وتعزيز الشعور بالإدماج الإجتماعي؛ بالتوازي مع ذلك تبرز هواجس مخاطر جديدة قد تُعيد إنتاج الوصم والإقصاء بطرق غير مرئية.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن أغلب الدول ومن ضمنها المغرب، صادقت على الإتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة، إلا أننا نلحظ أن هذه الفئة من المجتمع، لا زالت تواجه حواجز وعوائق كبيرة ومتنوعة تحول دون ولوجها الرقمي واستفادتها من مكتسبات الثورة الرقمية والذكاء الإصطناعي، بحيث تتفاوت بحسب طبيعة ودرجة الاعاقة والجندرة والطبقة الإجتماعية وبين الحواضر والقرى.
وتشـير أرقـام المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2024 إلـى أن أكثـر مـن مليوني شـخص أي حوالـي4.8 ٪ من سـكان المغرب هـم في وضعية إعاقـة، إذ يواجه المغرب تفاوتات رقمية واضحة بين الجهات، وبين الفئات الاجتماعية، وبين الأشخاص ذوي الإعاقة أنفسهم؛ كما أن غياب تعميم الولوجيات الرقمية، وعدم مراعاة بعض المنصات لمعايير النفاذ، وندرة المحتوى الموجه للأشخاص في وضعية إعاقة بكل أنواعها، جعل الكثير منهم، يجابهون صعوبات في الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية، بسبب مخاوف من عدم تقبل المجتمع أو قلة الوعي بأهمية الرقمنة والذكاء الاصطناعي في تجويد ظروف عيشهم. هذا التحدي لا يتعلق فقط بالوصول التقني، بل بمخاطر الإقصاء المزدوج (الإقصاء المادي في الحياة اليومية كواقع معيش، والإقصاء الرقمي في الخدمات الأساسية)؛ كلها عوامل قد تتحول إلى مصادر جديدة للإقصاء الشامل.
2 - الإعاقة والذكاء الإصطناعي في السياق الرقمي المغربي: جدلية التمكين الرقمي ومخاطر التمييز
ازدادت أهمية موضوع الإعاقة والتكنولوجيا الرقمية في السياق المغربي، مع اختيار المملكة اعتماد الرقمنة كرافعة للتنمية؛ حيث تم إنشاء اللجنة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية سنة 2009، بالموازاة مع إطلاق عدة برامج واستراتيجيات وطنية في المجال الرقمي، مثل الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي 2030، تطوير الخدمات الإلكترونية، الانتقال إلى الإدارة الرقمية في عديد المؤسسات وتأهيل البنية التحتية الرقمية؛ وقد وفّرت هذه الدينامية إمكانات جديدة للأشخاص في وضعية إعاقة، سواء عبر تيسير الولوج إلى الخدمات العمومية عن بُعد، إنشاء المنصات التفاعلية التي ترسخ المشاركة المواطِنة أو من خلال توفير الحلول التقنية المساعدة كالأجهزة والتطبيقات الرقمية التعليمية، الصحية، المهنية لتقليص القصور الوظيفي الجسدي، بغية تعزيز الإستقلالية؛ كما أن دستور 2011، والقوانين التنظيمية ذات الصلة، وما تبعهما من سياسات عمومية، تحاول استحضار بُعد الإعاقة لتكريس مبادئ المساواة والإنصاف والحق في الوصول الشامل، مما يجعل الرقمنة فرصة لتعزيز فعلية التمتع بالحقوق.
اتساقا مع ما سبق فإن العلاقة بين الإعاقة والرقمنة والذكاء الاصطناعي، أضحت ضرورة معرفية ومجتمعية، لفهم آفاق التمكين التي توفرها التكنولوجيا الحديثة، وتحديد المخاطر البنيوية التي قد تنتج عن سوء إدماج بُعد الإعاقة داخل المنظومة الرقمية؛ ففي ظل التطور المتنامي للذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المنبثقة عنه واكتساحه عديد المجالات، تبرز ضرورة التعبير عن المخاطر التي قد تقوّض المكتسبات الحقوقية والإدماجية التي تحققت خلال العقود الماضية لصالح الأشخاص في وضعية إعاقة، من قبيل: التمييز الخوارزمي، وشح حضور الأشخاص في وضعية إعاقة وقضاياهم وانشغالاتهم داخل قواعد البيانات الرقمية لدى الفاعلين السياسيين والإقتصاديين...، مما قد يؤدي إلى قرارات ميكانيكية وآلية (Robotique) غير منصفة وغير مُؤنْسنة، خصوصاً في المجالات الأكثر إلحاحا مثل: الصحة، التعليم، التشغيل،الإعلام، الإتصال والتواصل، الدعم الاجتماعي، الإسكان، الحكامة والشفافية...
تأسيسا على ذلك تعتبر الرقمنة والذكاء الاصطناعي اليوم من أبرز التحولات البنيوية التي تعيد تشكيل مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية بل وحتى على مستوى سلوك وعادات الأفراد؛ والهواجس المعبر عنها في الفقرة السابقة تستوجب إعادة تقييم السياسات العمومية الوطنية ومخططات التنموية الجهوية، لمعرفة مدى قدرة الرقمنة على تقليص الفوارق وتعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية، من خلال تنفيذ سياسات تضمن لذوي الإعاقة الوصول إلى خدمات الإنترنت عالية السرعة بتكلفة معقولة، وصولا للتمكين الرقمي والتكنولوجي؛ خصوصاً في المناطق الأقل حظا حيث الوسائط الرقمية بمثابة جسر عبور الأشخاص في وضعية إعاقة نحو المشاركة الإجتماعية والإقتصادية...، بل إن هذا المجهود الرسمي في تأهيل البنية التحتية الرقمية الوطنية، يجب أن يشمل الجماعات الترابية التي تشهد أوراش تنموية ملحوظة ومتسارعة، مثل الجهات الجنوبية، وبشكل مستعجل المدن الكبرى للمملكة، المُصنفة كوجهات سياحية وجاذبة للإستثمار، وذلك بالتزامن مع تنظيم المغرب لعديد التظاهرات الرياضية، السياسية والفنية الدولية لاستقبال ملايين الزوار والمؤتمرين والسياح من ضمنهم الأشخاص في وضعية إعاقة.
تفاعلا مع هذه الإنشغالات والتحديات، وفي مبادرة لتقليص فجوة الخدمات الرقمية الموجهة لذوي الإعاقة بالمغرب، تبرز تجربة جمعية الحمامة البيضاء بتطوان، بشراكة مع مؤسسة Enable Me Suisse بإنشاء المنصة الرقمية ممر Enable Me المغرب، الهادفة إلى تعزيز استقلالية الأشخاص ذوي إعاقة في المجال الرقمي بالمغرب، من خلال: إتاحة معلومات شاملة حول الخدمات المقدمة للأشخاص في وضعية إعاقة، خلق فضاء للتواصل والبناء المشترك للقدرات، تسهيل ولوج الأشخاص ذوي إعاقة لحقوقهم المختلفة، وللخدمات العمومية والخاصة المتوفرة، إرشاد وتوجيه الأشخاص ذوي الإعاقة نحو الخدمات المتوفرة والمناسبة لاحتياجاتهم من خلال معلومات وَلُوجة (مكتوبة، صوتية، مصورة)، لتوفير قاعدة بيانات وإرشادات، إضافة إلى إعطاء الفرصة للأشخاص ذوي إعاقة وأسرهم بالتواصل مباشرة مع الخبراء وتقاسم الاهتمامات والتفاعل مع مهن الإعاقة والباحثين وكل المهتمين، كما تعتبر المنصة آلية رقمية للترافع والمناصرة في جميع القضايا المرتبط بالإعاقة، معتمدة في ذلك مقاربة تشاركية مع كل الفاعلين المؤسساتيين والشبكات الجمعوية العاملة في ميدان الإعاقة بكل جهات المملكة.
خاتمة
إن مسالة التمكين الرقمي والنفاذ التكنولوجي بشكل سليم وآمن وفق ضوابط أخلاقية للأشخاص في وضعية إعاقة، قد يكون مدخلا لتصحيح التمثلات السلبية والأحكام المسبقة اتجاه هذه الفئة، وفرصة لإعادة فهم علاقة الدولة، المجتمع والأفراد بالإعاقة وبحامليها، ليس فقط كواقع بيولوجي أو طبي، بل كقضية حقوقية وإنسانية وتنموية بالدرجة الأولى؛ وعليه فإن ضبط العلاقة بين الإعاقـة والواقع الرقمي الجديد والمُتجدَد ، وتعميق الفهم وإذكاء الوعي بمستوى التحديات والرهانات التي تفرضها؛ يعتبر أحد المواضيع الأكثر إلحاحا، التي يمكن أن تؤثر علـى مسلسل التنميـة كونها تطرح عناوين مُركّبة تتعلق بالإنصاف، تكافؤ الفرص وعدم التمييز أو الإقصاء، وضمان عدم ترك أي فئة مجتمعية خلف الرّكب.
[1]- الرقمنة هي عملية تحويل المعطيات والعمليات والخدمات من شكلها التقليدي المادي أو الورقي إلى شكل رقمي يُدار عبر التقنيات الحديثة، كما تشمل إعادة تنظيم طرق العمل اعتمادًا على التكنولوجيا (الإنترنت والبرمجيات) بهدف تحسين الفعالية، والشفافية، وجودة الخدمات.
[2]- الذكاء الاصطناعي هو مجموعة من النظم والخوارزميات يهدف إلى إنشاء أنظمة قادرة على محاكاة القدرات المعرفية البشرية مثل التعلم، وحل المشكلات، واتخاذ القرارات، وإدراك البيئة، ومعالجة اللغة الطبيعية، والقدرة على تحليل البيانات الضخمة.
[3]- تتخذ الدول الأطراف تدابير فعالة تكفل للأشخاص ذوي الإعاقة حرية التنقل بأكبر قدر ممكن من الاستقلالية، بما في ذلك ما يلي:
ب) تيسير حصول الأشخاص ذوي الإعاقة على ما يتسم بالجودة من الوسائل والأجهزة المساعدة على التنقل والتكنولوجيات المُعِينة وأشكال من المساعدة البشرية والوسطاء، بما في ذلك جعلها في متناولهم من حيث التكلفة؛
د) تشجيع الكيانات الخاصة التي تنتج الوسائل والأجهزة المساعدة على التنقل والأجهزة والتكنولوجيات المُعِينة على مراعاة جميع الجوانب المتعلقة بتنقل الأشخاص ذوي الإعاقة.