عصام خايف الله: مكناس..عندما يرسي برنامج التنمية الترابية المندمجة تحولا في مدينة تاريخية

عصام خايف الله: مكناس..عندما يرسي برنامج التنمية الترابية المندمجة تحولا في مدينة تاريخية عصام خايف الله
تجسد مدينة مكناس مسار حضاريا ضاربا في اعماق التاريخ، حيث يروي كل حي حكاية مختلفة، مسهمة في تحقيق الزخم التاريخي لهذه الايقونة المغربية، التي تتطلع الى تنزيل التحول المجالي والتنموي المندمج الذي سيعيد رسم مستقبلها.
مبادرة طموحة لا تكتفي بتحديث المدينة فحسب، بل بابتكار نموذج جديد للتنمية الترابية تراثيا وحداثيا في الآن نفسه.
 
بحيث يمثل برنامج التنمية المجالية المندمجة أكثر من مجرد تخطيط حضري. بل إنه نهج شمولي يأخذ بعين الاعتبار كل جوانب الحياة اليومية للمواطنين والمواطنات: اقتصاديا، وبيئيا، وصحيا، وتعليميا، بالاضافة الى تطوير البنى التحتية.
 
ويكتسي هذا النهج الشامل بعدا خاصا، إذ يجب أن يوفق بين الحفاظ على تراث استثنائي من جهة، والاستجابة لاحتياجات الساكنة في تطور مستمر من جهة أخرى.
 
ولا يأتي هذا التحول لايأتي من فراغ. بل هو ثمرة تعاون وثيق بين السلطات المحلية، والجماعات الترابية، وخبراء التخطيط، والجمعيات المدنية، والإعلام السمعي البصري، وخصوصا المواطنين والمواطنات أنفسهم. فكل مشروع يدمج الخصوصيات المحلية، والتقاليد العريقة، والتطلعات المعاصرة. يهدف الى ارساء مناخ لمدينة يطيب فيها العيش والعمل في تناغم مع عراقتها التي تشكل ثروتها منذ قرون.
 
وهنا نطرح السؤال كيف يمكن عصرنة مدينة تاريخية، دون أن تفقد جوهرها؟ هذا السؤال الجوهري يساءل برنامج التنمية الترابية المندمجة بمكناس.
 
بحيث أن الجواب يكمن في اعتماد مقاربة تعتبر المدينة ككائن حي، حيث يلعب كل حي، وكل شارع، وكل مبنى دور محدد في التناغم تام. مما يحتم على الفاعلين ارساء رؤية بعيدة المدى تمتد على عقود عدة، وتسمح بتحول تدريجي منفتح على مسار مستقبلي.
 
فالمخطط التوجيهي لمدينة مكناس يحدد عدة مناطق استراتيجية تحتاج إلى تدخلات موجهة. بالمدينة العتيقة، بأسوارها الشامخة وأزقتها الملتوية، بحيث يجب أن تحظى باهتمام خاص للحفاظ على أصالتها، وفي الوقت نفسه تحسين ظروف سكن لسكنتها. أما الأحياء العصرية، فتستفيد من ابتكارات في مجال التعمير المستدام والتكنولوجيات الخضراء. وهذه الثنائية تخلق توازنا فريدا بين التقليد والحداثة.
كما أن المقاربة المتكاملة تعني أن كل مشروع يأخذ في الحسبان آثاره على كامل التراب. فمثلا، عند تجديد حي تاريخي، يجب أن يراعي التدخل كل الانعكاسات الاقتصادية على الساكنة المحلية، واحتياجات مواقف السيارات، بل وحتى تأثيره على الجانب السياحي. بحيث أن المنظور الشمولي يستوجب تجنب الحلول التجزيئية التي قد تحدث اختلالات كبرى داخل المدينة. مما يفرض اتخاذ كل الاجراءات المرتكزة على التنبئ المستقبلي القابل للتعديل والتقويم.
كما تشكل المشاركة المواطنة ركيزة أساسية في هذه الرؤية الاستراتيجية. منذ انطلاق الاجتماعات المحلية وصولا إلى الاستشارات العمومية، التي كانت فرصة للمواطنين والمواطنات بعمالة مكناس للتعبير عن احتياجاتهم وهمومهم وأفكارهم المثرية لمسارات التأهيل والتخطيط المحترم للخصوصيات الترابية بعمالة مكناس.
 
وبالحديث عن البنى التحتية التي تعتبر العمود الفقري لأي تنمية ترابية ناجعة بمدينة مكناس وجماعاته الترابية، سيولي برنامج التنمية الترابية المندمجة أهمية قصوى لتحديث الشبكات الأساسية: الماء، والكهرباء، والاتصالات، والنقل، وتدبير النفايات. فهذه التحسينات، رغم أنها غالبا ما تكون غير مرئية للمواطنين والمواطنات، ستغير بشكل جذري جودة حياتهم، وتهيئ الظروف الملائمة للنمو الاقتصادي.
 
كما ستخضع شبكة النقل العمومي لإعادة هيكلة شاملة من خلال إدخال خطوط حافلات عصرية وصديقة للبيئة ومترابطة بشكل جيدا. مما سيؤدي الى التخفيف من حدة الازدحام المروري، وكذا تحسين جودة الهواء، وتسهيل التنقل لجميع المواطنين والمواطنات، بما في ذلك الأشخاص في وضعية إعاقة. بالاضافة الى ارساء محطات عصرية على المستوى الحضري والقروي تتماشى مع التطورات الرقمية الحاصلة في مجال النقل.
 
كما لايمكن بطبيعة الحال أن نستثني البعد الرقمي كمحور من محاور التحديث. فمكناس بجماعاتها الترابية 21 تنتظر أن تبني شبكة واسعة من الألياف البصرية تتيح الاتصال بالإنترنت عالي السرعة في جميع الأحياء والحواضر. ويسهم هذا الاتصال في نشوء شركات تقنية، ويسهل العمل عن بعد، ويحسن الوصول إلى الخدمات العمومية الرقمية. كما تتطلع إلى تثبيت مناطق "واي فاي" مجانية في الفضاءات العمومية، مما يخلق أماكن لقاء وعمل غير رسمية ترسخ الحياة الاجتماعية.
 
ويتجسد النهج المتكامل أيضا في التدبير الذكي للماء والنفايات. كمجسات رقمية تراقب باستمرار جودة المياه، وتكشف بسرعة عن التسربات في الشبكة. وننتظر كذلك العمل على تحديث محطات معالجة المياه باعتماد تقنيات تتيح إعادة استخدام المياه المعالجة لري الفضاءات الخضراء. كما يعمم الفرز الانتقائي للنفايات عبر حاويات عصرية، إلى جانب حملات توعوية تشجع على الممارسات البيئية السليمة.
 
كما لايمكن أن نغفل مجالا مهما كالاقتصاد المحلي الذي يعتبر المحرك الرئيسي لأي تحول ترابي ناجح. ويتطلع برنامج التنمية الترابية المندمجة في مكناس إلى تنويع الاقتصاد المحلي مع تعزيز الموارد المجالية للمنطقة. بحيث ستخلق هذه الاستراتيجية وظائف مستدامة، وتقلص البطالة، وتحسن مستوى معيشة الأسر. فمثلا، سيستفيد قطاع الصناعة التقليدية من برامج تحديث تحافظ على التقنيات العريقة، في حين ستتبنى وسائل تسويق عصرية.
كما سيتطلع هذا البرنامج الى صياغة مخطط للمناطق الصناعية بعناية تعتمد على الأنشطة الصديقة للبيئة والخلاقة لفرص شغل مؤهلة. وستشكل الصناعات الغذائية، والحرف التقليدية، والتكنولوجيات الخضراء قطاعات أولوية تتماشى مع الموارد المحلية واتجاهات السوق الدولية. وستستفيد هذه المؤسسات من بنى تحتية حديثة، وتكوينات متخصصة، ومرافقة إدارية تسهل استقرارها ونموها.
 
وتعد السياحة، باعتبارها قطاعا مهما لمدينة تاريخية كمكناس، ومحطة استراتيجية تنموية ومستدامة. لتطوير المجال السياحي والثقافي المثمن لقيمة التراث المحلي الذي يعكس الجانب الايجابي المباشر على الساكنة. من خلال إعداد مسارات سياحية موضوعاتية، وتجديد بعض دور الضيافة التقليدية، وتقديم تكوينات سياحية للشباب المهتم بالمجال.
 
كما ستحظى ريادة الأعمال المحلية بدعم خاص من خلال حاضنات مشاريع، وبرامج تمويل، وتكوينات متخصصة. مما سيشجع على الابتكار وطرح أفكار ومشاريع قابلة للتنزيل والاستمرارية. حيث سيتم تجهيز فضاءات للعمل المشترك في أحياء مختلفة، مما سينمي مبدأ التبادل والتعاون وتحفيز الإبداع والابتكار. كما ستحظى رائدات الأعمال بمرافقة خاصة تيسر ظروف العمل وتتجاوز كل الاكراهات والصعوبات المطروحة.
 
فالسؤال المطروح حاليا، كيف يمكن التوفيق بين الحفاظ على التراث التاريخي وضرورات التحديث؟ بحيث يعد هذا السؤال من أكثر التحديات تعقيدا التي تواجه برنامج التنمية الترابية بمكناس. فالمدينة العتيقة، المسجلة ضمن التراث العالمي لليونسكو، تتطلب تدخلات دقيقة تحترم الهندسة المعمارية التقليدية، وتحسن في الوقت ذاته ظروف سكن المواطنين والمواطنات. ويعتمد كل مشروع ترميم على حرفيين متخصصين يتقنون التقنيات القديمة، ويستخدمون مواد أصيلة على مستوى الترميم.
وستستفيد المعالم التاريخية من برامج ترميم تجمع بين الخبرة الأثرية والتقنية الحديثة. فتقنيات المسح ثلاثي الأبعاد توثق بدقة حالة الهياكل قبل التدخل، مما يسمح بترميمات دقيقة ومستدامة. كما ستعتمد إضاءة المعالم على تقنيات LED التي تبرز جمال الهندسة المعمارية، وتخفض الاستهلاك الطاقي في آن واحد. وتعزز هذه التحسينات الجاذبية السياحية مع الحفاظ على أصالة الأماكن.
 
ويمثل نقل المهارات الحرفية التقليدية رهانا أساسيا للحفاظ على التراث الحي. فمدارس الحرف تكون الشباب على تقنيات الأجداد: البناء التقليدي، النجارة، الحدادة، صناعة الفخار، والنسيج. وتجمع هذه التكوينات بين التعلم التقليدي والمعرفة الحديثة في مجالات التدبير، والتسويق، والتكنولوجيات الجديدة. وينتشر الخريجون بعدها في ورشات الترميم، أو يؤسسون مقاولاتهم الخاصة.
 
كما سيشهد التراث في مكناس تطورا في استخدام الابتكار التقني. فتطبيقات الهواتف الذكية تقدم زيارات إرشادية تفاعلية للمدينة العتيقة، مع تقنيات الواقع المعزز ومحتويات متعددة الوسائط. وغنى هذه الأدوات الحديثة على تجربة الزوار، وتحقق دخلا للمرشدين المحليين. كما ستخضع مشاريع تجريبية لاختبار استخدام الطائرات المسيرة (الدرون) لمراقبة حالة المعالم وكشف المشاكل التي تتطلب تدخلا سريعا.
إذ لا معنى لبرامج التنمية الترابية المندمجة إن لم تنعكس فعليا على حياة المواطنين والمواطنات اليومية. وفي مكناس، يشكل الأثر الاجتماعي معيارا محوريا لتقييم جميع المشاريع. اذ تشمل المؤشرات التي يتم تتبعها: الوصول إلى الخدمات العمومية، جودة البنى التحتية التعليمية والصحية، فرص التشغيل، والتماسك الاجتماعي. ويكفل هذا النهج أن يستفيد جميع المواطنين والمواطنات من التنمية، دون تمييز.
 
كما سيحظى التعليم والتكوين المهني باهتمام خاص في هذا الإطار المتكامل. فستبنى مدارس جديدة في الأحياء المتنامية، وستتجهز بتقنية عصرية وفضاءات معدة لمتطلبات البيداغوجيات المعاصرة. كما ستتيح برامج التكوين المستمر للبالغين اكتساب كفاءات جديدة تتماشى مع تطورات سوق الشغل. وتساعد هذه المبادرات على تقليص الفوارق وتمكين الجميع من المساهمة في تنمية مدينتهم.
 
وفي المجال الصحي ستستفيد الصحة العمومية من تحسينات ملموسة عبر إحداث مراكز صحية قريبة من المواطنين والمواطنات، وتحديث التجهيزات الطبية، وتكوين أطر صحية. وستنشط حملات وقائية لتوعية الساكنة بالممارسات الصحية السليمة وتشجيع الكشف المبكر عن الأمراض. وبذلك سيصبح الوصول إلى الرعاية الصحية أكثر إنصافا، وتتحسن جودة الخدمات تدريجيا.
ولا تقتصر المشاركة المواطنة على استشارات عابرة، بل تنظم على نحو دائم عبر مجالس الأحياء، وجمعيات المجتمع المدني، ومنصات رقمية تشاركية. وتتيح هذه الهيئات للمواطنين التعبير عن احتياجاتهم، واقتراح حلول، ومتابعة تقدم المشاريع. وتعزز هذه الديمقراطية التشاركية تملك الساكنة للتحولات، وتزيد من فعالية التدخلات العمومية.
 
حتما ستبين هذه التجربة أنه من الممكن التوفيق بين الحفاظ على التراث، وتحديث البنى التحتية، والتنمية الاقتصادية، والرفاه الاجتماعي. ومفتاح النجاح يكمن في المقاربة الشاملة التي تنسق كل هذه الأبعاد، وفي مشاركة الفاعلين جميعهم بشكل فعال.
 
والنتائج المرئية بالفعل تشجع على مواصلة هذه الجهود وتوسيعها. وتحسين جودة الحياة، وخلق فرص العمل، وتدبير التراث، وتعزيز التماسك الاجتماعي كلها مكاسب يستفيد منها جميع المواطنين والمواطنات. وتجعل هذه التحولات من مكناس وجهة جذابة للمستثمرين والسياح والوافدين الجدد، مما يولد دينامية تنموية إيجابية.
 
ويمكن لتجربة مكناس أن تلهم مدنا أخرى تواجه تحديات مماثلة في التحديث والحفاظ على التراث. فالمنهجيات التي ستطبق، والأدوات التي ستستخدم، والدروس المستفادة ستشكل مرجعا معرفيا ثمينا للتخطيط الحضري المستدام في المغرب وخارجها. وتمثل هذه المقاربة المتكاملة مستقبل التهيئة الترابية في عالم يجب أن توفق مدنه بين النمو، والاستدامة، وجودة الحياة.
 
إن التنمية الترابية المندمجة ليست حكرا على الخبراء وصانعي القرار؛ بل تتطلب التزام كل مواطن لتتحقق على أكمل وجه. معا، نبني مدن الغد التي تحترم إرثنا، وتفتتح آفاق المستقبل لنا.
 
عصام خايف الله، مهتم بالشأن العام