محمد عزيز الوكيلي: نظرة إلى تاريخ النزاع المغربي الجزائري من زاوية مغايِرة !!

محمد عزيز الوكيلي: نظرة إلى تاريخ النزاع المغربي الجزائري من زاوية مغايِرة !! محمد عزيز الوكيلي
كانت أُولى البدايات، في هذا النزاع الذي افتعلته الجزائر ضد جارها الغربي، قد تلقّت بذورها الأولى التي ستتفتّق بعد تقرير مصير "شعب المقاطعة الفرنسية لما وراء البحار"، أقول كانت تلك البدايات الأولى منذ أواخر الخمسينات، وتحديداً منذ احتضن المغرب الرسمي بعد استقلاله مباشرةّ (1956)، طلائع المقاومة الجزائرية، التي يمكن القول إنها كانت مجرد تلميذة نجيبة لدى جيش التحرير المغربي، بعد انتهاء بهلوانيات العميل الفرنسي "الأمير" عبد القادر، حيث ظل جيش التحرير المغربي يمدها بالمال والعتاد والسلاح، ويَأوي قياداتها وفصائلها في مجموع تراب الشمال والشمال الشرقي من المملكة، بل كانت عناصرُه تتوغل في تراب "المقاطعة الفرنسية الشمال إفريقية" لتقديم الدعم البشري أيضاً للكراغلة، حتى أن جلالة المغفور له الملك محمد الخامس، شخصياً، جعل من استقلال الجزائر المُرتكَزَ الرئيسيَّ لأول خطاب سيلقيه بعد الاستقلال أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ضَمَّنه عباراتٍ قويّةً فَهِم منها العالَم الحُر "أنّ استقلال المغرب الفتيّ والطريّ لن يكتمل إلا باستقلال الجزائر"... وبيني وبينكم: "خسارة فيهم" !!
 
نعم يا حضرات، منذ ذلك التاريخ، وذلك الخطاب الملكي المدوّي، القويّ والمفعَم، نشأ لدى قيادات الثورة الجزائرية، والعسكريين منهم خاصة، نوع من الغيرة، بل الحسد القاتل، جعلهم يَقبَلون المعونات والمساعدات المغربية بنوع من الانكسار، ليس لأن المغاربة كانوا يُتبِعون عطاءاتهم بالمَنّ والأذى، حاشى لله، وإنما لأن الجزائري معروف منذ نشأته دولته بذلك "النيفٍ" أو "العجرفة الخاوية"، مع تفاقم الضعف والحاجة والهوان، وكل ذلك كان يزيد أولئك القادة حقداً وضغينةً تجاهنا، باستثناء قلة قليلة منهم، من بينهم الرئيس فرحات عباس، والقيادي القبايلي البشير أيت أحمد، اللذان سيكونان لاحقا من أوائل ضحايا مختطِفي الثورة الجزائرية، الذين استحوذوا على الحكم وما زالوا إلى غاية هذه الساعة يفعلون !!
 
الغيرة السوداء والحسد الأهوَج، هما اللذان جعلا مختطفي الثورة الجزائرية ينقلبوا غلى الاتفاق المغربي الجزائري، الذي كان قائماً، بشهادة التاريخ، بين جلالة الملك محمد الخامس والرئيس فرحات عباس، ليتطور ذلك في زمن لاحق إلى حرب الرمال، التي كان المغرب فيها لا يزال يسدد بالجهد والدم ثمن استكمال استقلاله من الإدارة الفرنسية، ويسعى جاهداً ليستكمل إجلاء قوات الحماية الإسبانية من ثغوره الجنوبية في إفني وأيت باعمران، الشيء الذي لم يتم إلا سنة 1969، مما شَكَّل خيانة جزائرية في غاية الخِسة، وتَنَكُّراً سافراً ووضيعاً للجميل، بشهادة عالَم كانت تتنامى فيه شُعْلاتٌ التحرر، ويرتفع في أرجائه هدير الثَّوَرات !!
 
ولم يَكْفِ القادةَ الجزائريين ذلك، فجندوا معهم، تحت لواء الاتحاد السوفياتي وبتنظيرٍ وإشرافٍ مباشر منه، كُلاًّ من مصر وسوريا وليبيا وكوبا وبوليفيا وخبراء ماوتسيين، وآخرين من الخمير الحُمْر الكامبوديين، فضلاً عن بعض أعضاء الأممية الاشتراكية من المغاربة أنفسهم، من الذين كانت تستهويهم، هُمُ الآخَرون، شعاراتُ تلك المرحلة الرصاصية والدُّخانية، التي عانينا منها في الداخل واستدعت بعد ذلك ابتكار آلية "الإنصاف والمصالحة" لطيّ صفحاتها الرمادية بأقل الخسائر، وبنزرٍ أخفَّ من المعاناة، وبجهد وازن لتهدئة الخواطر وجبر الأضرار !!
 
الجميل الغريب، الذي جعلني استحضر تلك المرحلة بالذات، إنما هي تلك الحكمة والرزانة اللتان استأثرت بهما المؤسسة الملكية المغربية، في عهد كل من جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني رحمه الله، ووارث سره ومُلْكِهِ جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، وقد شكّلا معاً وبالتتابع مرحلتين متواليتين ومتكاملتين للمدرسة ذاتها، حيث تتضح فيها وحدةُ الرؤيةِ و تماثُلُ ردةِ الفعل وحذاقة الصنعة لديهما معاً... فكيف ذلك؟!
 
نَذكر أن المغفور له الملك الحسن الثاني استطاع بحكمته ودهائه وعبقريته أن ينجح في تحييد الاتحاد السوفياتي، بقده وقديده، ومِن ورائه "حلف وارسو"، دون أن يُقلق أو يُغضب أو يُثير عداء صديقه وشريكه الأمريكي، ومن ورائه هو الآخر "حلف الناتو"، وذلك من خلال إقناع الأول بأن المغرب هو الشريك الاقتصادي المستقِر، والآمِن، في آفاق مستقبلية منظورة وقابلة للسبر والتوقُّع؛ ويُقنع الثاني بأن المغرب هو المؤهل للعب دور السد المنيع دون التوسع السوفياتي والماوتسي باتجاه إفريقيا انطلاقا من الجزائر... وبذلك استطاع أن يضمن حياداً نوعياً ونسبياً لقوى الشرق الأوروبي، وكذلك فعل على النطاق الأسيوي، من خلال النضال السياسي والدبلوماسي المغربي من أجل تمكين الصين من مقعدها المستحَق بمجلس الأمن الدولي، وبذلك وجدت ليبيا ومصر وكوبا ومَن يدور في فلكِ ثلاثتِها، وجدت نفسها مجرد "كومبارس" لا وزن له في رقعة الشطرنج الجديدة، التي أخذ مغرب الحسن الثاني مكانه فوقها كلاعب وازن وليس كبيدق فحسب، وأستطيع أن أشبّهه فوق تلك الرقعة "بالفرس" نظرا لحركاته الجانبية تقدُّماً وتراجُعاً، في الوسط وعلى الجوانب، لتنتهي تلك الدول البيدقية إلى رفع أيديها من اللعب والانزواء خارج الرقعة، وهذا ما آلت إليه كل من مصر عبد الناصر، وليبيا القذافي، وكوبا كاسترو، وبوليفيا غيفارا، ولم يبق إزاء الرقعة إلا كبار اللاعبين، فقط لا غير... مع جزائر ما زالت إلى غاية هذه اللحظة تجتر حُلمها الأيديولوجي العتيق !!
 
في عهد جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، استمر التحرك بنفس الحكمة ونفس التبصُّر، ليستطيع المغرب بفضل سداد النظر الملكي تحييد كل من روسيا والصين، باتخاذهما شريكين رئيسيين في مضمارٍ شاسعٍ من الاستثمارات الضخمة، وفي العبور عبر الجسر المغربي الإفريقي الذي يُشَكّله المغربُ ذاتُه، وكذلك فعل مع فرنسا وإسبانيا والاتحاد الأوروربي، مستعملاً مِيزتَيْ الأمان والاستقرار، وكذلك آفاق الاستثمار في خيرات مستقبلية لا مجال لمنافستها خارج التراب المغربي، من قبيل الفوسفات المؤمّن لثروتَيْن مستقبليتَيْن لا غنى عنهما عالمياً، هما "السماد الصناعي"، و"اليورانيوم"، وكذلك من قَبيل المعادن النفيسة والنادرة التي يزخر بها الجنوب المغربي برّاً وبحراً وجواً، كالكوبالت، والهيليوم، والذهب والنحاس والفضة ومعادن أخرى ثمينة ونادرة، فضلا عن ثروته السمكية الأطلسية التي يَسيلُ لها لُعابُ كبريات الدول من كل القارات !!
 
نفس المدرسة، ونفس الحكمة والعبقرية السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية... لخدمة نفس الهدف: تأمين حاضر ومستقبل مغربِ اليوم، الذي لا يُشبه في شيءٍ مغربَ الأمس !!
 
ونعود من جديد إلى نزاعنا الذي افتعله جيراننا الشرقيون، لنجد أن المدرسة الملكية قد تجاوزته بسنوات ضوئية منذ بداياته الأولى، لولا أن جيراننا الشرقيين أخذتهم العزةُ بالإثم، وأَعاقَتْهُم أثقالُ الأُمّيّة السياسية والقانونية والدبلوماسية التي يغرقون في بحبوحتها بكل أريحية، فلم يفهموا ذلك في إبانه... والمصيبة العظمى أنهم ما زالوا يتنكّرون له، وسيظلّون يتنكّرون له إلى ما شاء الله... عجبي!!!
 
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي تقاعد