سعيد العزوزي : الحاجة لإعادة الاعتبار للعمل التطوعي النبيل

سعيد العزوزي : الحاجة لإعادة الاعتبار للعمل التطوعي النبيل سعيد العزوزي 
يحتفل المغرب، على غرار باقي دول العالم، باليوم العالمي للتطوع الذي يصادف الخامس من دجنبر من كل سنة، باعتباره محطة حضارية لتثمين العطاء الإنساني وروح المبادرة المواطنة. ويأتي هذا الاحتفاء تكريما لملايين المتطوعين الذين يجسدون أسمى قيم التضامن والتضحية والإيثار، وبذل الجهد لخدمة الصالح العام دون انتظار مقابل ويشكل هذا اليوم مناسبة لإبراز دور العمل التطوعي في تعزيز التنمية المستدامة، وتقوية الروابط الاجتماعية، والارتقاء بالوعي الجماعي بأهمية المشاركة المدنية، كما يمثل فرصة لإعادة الاعتبار لثقافة التطوع التي شكلت عبر التاريخ المغربي، رصيدا أخلاقيا وحضاريا متجذرا في الهوية الوطنية. ولطالما حرص المجتمع المدني على إحياء هذا اليوم بالتأكيد على ضرورة تعزيز هذا النهج عبر تثمين المبادرات المواطنة وتشجيع جيل جديد من المتطوعين القادرين على الإسهام في بناء مجتمع مغربي أكثر تماسكا وصلابة.
 
لم يعد الحديث عن العمل التطوعي في المغرب مجرد استحضار لذكريات جميلة من زمن "التويزة" والحركة وممارسات التضامن التي كانت جزء من بنية الجماعة أو القبيلة، بقدر ما أصبح سؤالا حارقا حول حاضر مجتمع بدأ يفقد الكثير من روح العطاء المجاني والإحساس الجماعي بالتكافل.
 
 فقد شكل التطوع في المغرب، لسنوات طويلة، ركيزة ثقافية لإنتاج التماسك الاجتماعي، وبناء قيم المواطنة، وتحقيق التوازن بين الدولة والمجتمع، وبين الحاجة والفعل، وبين الحقوق والواجبات، غير أن العقدين الأخيرين شهدا تحولا عميقا في بنية المجتمع، يدفعنا اليوم إلى طرح السؤال بصوت عال: أين هي تلك العادات و التقاليد التي ترسخت لعقود في الحومة والدرب بن الجيران و الاسر حيت التضامن والتآزر في الأفراح و المسرات و المناسبات وأين اختفت تلك البنيات الاجتماعية الصلبة من جمعيات تربوية وثقافية واجتماعية ...كانت مدارس حقيقية للتربية على القيم الإنسانية، ومشتلا لصناعة المواطن، ومختبرا يوميا لتنشئة الأطفال والشباب على روح المبادرة والمسؤولية والالتزام الأخلاقي؟
 
أين هي جمعيات الأوراش التي شكلت لعقود فضاءات نموذجية للتربية على قيم التطوع وطنيا ودوليا، وكانت مدارس عملية أعدت أجيالا كاملة من الشباب على العمل الجماعي والانتماء والإبداع؟ وأين اختفت الأندية السينمائية التي كانت فضاء للتربية على الذوق الفني والقيم الجمالية، ومدرسة في التحليل والنقاش والنقد، قبل أن تتراجع بنسب كبيرة تاركة خلفها فراغا ثقافيا ومعرفيا وأخلاقيا كبيرا؟ ثم أين ذهبت فرق مسرح الهواة التي صنعت أسماء خالدة في تاريخ المسرح المغربي، وخلقت ذاكرة فنية وإبداعية مشتركة تشكل جزءا من وجدان المجتمع؟ وكيف تحولت عشرات الجمعيات التربوية والثقافية، التي كانت ذات يوم رئة المجتمع المدني، إلى كيانات منهكة أو هامشية، فقدت الكثير من استقلاليتها، ليُختزل دورها في مقاولات خدماتية أو مشاريع موسمية محكومة بمنطق الدعم السريع والنتائج الرقمية عوض البناء الطويل النفس لقيم المواطنة والتطوع؟
 
أين اختفت شبيبات الأحزاب السياسية التي كانت إلى عهد قريب مدرسة لصناعة الوعي المدني وصقل القيادات الشابة؟ وأين تلاشى دور القطاع الطلابي داخل الجامعات، ذلك الفضاء الذي كان ورشا مفتوحا للنقاش العمومي ومنبعا للمبادرات التطوعية والتنويرية؟ وأين غابت تلك الديناميات الشبابية التي كانت تبعث الحياة في الحرم الجامعي، وتمنح الفعل التطوعي قيمته النضالية والإنسانية؟ إنها أسئلة تفرض مراجعات عميقة في ظل الحاجة المتزايدة إلى تقوية الفعل التطوعي داخل المجتمع، بعدما أصبح غياب التنظيمات الوسيطة وتراجع فضاءات التأطير الشبابي مؤشرا على فراغ قيمـي وثقافي يجب ملؤه بإحياء روح المبادرة وإعادة الاعتبار للتطوع كقيمة حضارية ومسار لبناء الإنسان.
 
ويصح اليوم أيضا مساءلة دور الإعلام الوطني الحر والإعلام الحزبي المناضل الذي شكل لعقود منارة للوعي وفضاء لتثمين المبادرات التطوعية بجرأته العالية، في زمن كانت المنابر الإعلامية قليلة لكنها قوية برسالتها وعمقها وقيمها، أين اختفت تلك الأصوات المهنية التي كانت تؤطر النقاش العمومي وتسهم في نشر ثقافة التطوع؟ اليوم، ورغم كثرة المنابر والمنصات، نجد أنفسنا أمام مفارقة مؤلمة عنوانها نزر قليل من المنابر الإعلامية الحرة المستقلة الصادقة... أمام هيمنة المحتوى الاستهلاكي المبتذل الذي يقوده "المؤثرون بالتفاهة" وجزء من الإعلام المتماهي مع الخطاب الرسمي يساهم في نشر مضامين جوفاء تفرغ القيم من معناها وتشوه الوعي الجماعي بدل تنميته....في الذرح و التحليل و المسائلة باعتبارها مرآة المجتمع و صوته الصادق ... وهو تحول يضع المجتمع أمام مسؤولية تاريخية لإعادة الاعتبار للإعلام المسؤول القادر على دعم الفعل التطوعي وترسيخ قيم المواطنة.
 
هذا التحول لا يمكن قراءته بمعزل عن السياسات العمومية التي لم تنجح في خلق منظومة حقيقية لتثمين العمل التطوعي، ولم تستطع إدراك القيمة الاستراتيجية لهذا الرأسمال اللامادي في بناء مجتمع متماسك ومقاوم للأزمات.
 
وقد عرف المغرب، في تاريخه القريب، نماذج مضيئة لما يمكن أن يصنعه التطوع حين يكون نابعا من الوعي الجماعي وروح المسؤولية، ولعل طريق الوحدة الذي شيد جزء كبير منها بسواعد آلاف الشبان المتطوعين والقادة السياسيين ، تحت شعار "نخن نبيني الشباب و الشباب يبني الوطن"... تعد من أعظم الدروس التي جسدت قيم التضامن وربطت الشمال بالجنوب وأعادت تشكيل معنى الانتماء للوطن كما تشكل مبادرات إعادة بناء دور الصفيح التي شاركت فيها جمعيات وسكان أحياء بأكملها مثالا رائعا لقدرة المجتمع على التنظيم الذاتي خارج أي منطق ريعي أو مصلحة ضيقة.
 
وتبقى الحاجة ملحة إلى مساءلة قانون التطوع التعاقدي الذي حوّل الفعل التطوعي من ممارسة نبيلة إلى علاقة خدماتية محدودة محكومة بالعقد والمدة والمهام بدل أن تكون محكومة بالقيم والمسؤولية. ويزداد هذا القلق مع تقييم برنامج "متطوع" الذي كان من المفترض أن يربي الشباب على المبادرة والمواطنة، فإذا به يتحول إلى آلية تكرس ثقافة الريع الصغير، وتدفع الشباب نحو البحث عن تعويض مالي مقابل خدمات هشة أو صورية، مما يرسخ قيم الاستهلاك السريع بدل قيم البذل والعطاء. هكذا يتحول التطوع إلى وظيفة متنكرة تقاس بالأجر بدل أن تقاس بالأثر.
وقد كشفت كارثة زلزال الحوز حجم الخصاص في العمل التطوعي المنظم، فبينما أظهر جزء من المغاربة قدرة استثنائية على التضامن العفوي، كشفت الأزمة أيضا حجم التراجع الذي أصاب البنيات المدنية القادرة على التنظيم السريع والتدخل المنهجي. وظهر الفرق بين التضامن كفعل عاطفي مؤقت وبين التطوع كتربية مؤسساتية طويلة النفس تحتاج إلى رؤية وهياكل.
 
اليوم لم يعد السؤال: لماذا تراجع العمل التطوعي؟ بل أصبح: كيف يمكن إنقاذ ما تبقى منه قبل فوات الأوان؟ وكيف نعيد بناء مدرسة التطوع في مجتمع يزداد انغلاقا على ذاته، ويشهد انهيارا مقلقا في منظومة القيم بفعل سيادة التفاهة وغياب القدوات وتراجع الثقافة وضعف الفعل الجمعوي وتضاؤل الأدوار التربوية للمدرسة والأسرة وفضاءات التنشئة الاجتماعية وارتفاع معدل الجريمة ...؟
 
إن العودة إلى روح التطوع ليست مسؤولية الجمعيات وحدها ولا الدولة وحدها، بل هي مشروع مجتمعي يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والفضاء العمومي، وسياسات عمومية تشجع وتحمي وتمكن، وجيلا جديدا من الفاعلين المدنيين المؤمنين بأن التطوع ليس بديلا عن الدولة ولا عن الحقوق الاجتماعية، بل رافدا يعزز المجتمع ويقوي لحمة الوطن.
 
إن إعادة الاعتبار للتطوع شرط لبناء مغرب متماسك قادر على مواجهة الأزمات وصناعة الأمل وإنتاج جيل ينهل من قيم "التويزة" ويتشبع بروح التضامن، جيل يدرك أن الوطن لا يبنى بالتفاهة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا بهدم القدوة، ولا بالخطابات الجوفاء، بل بالإرادة الحرة والعمل النبيل والمسؤولية المشتركة وهكذا فقط نستعيد الروح التي جعلت من المغاربة شعبا قادرا على تجاوز الصعاب وصناعة قيم العطاء التي لطالما كانت مرآة لعمق هذه الأرض وإنسانها.