يجب التَّمييز بين التَّجديد l'innovation، كمفهوم concept، والتَّجديد ككلمة mot أو كمُفردة من المُفردات vocabulaire. المفهوم هو عبارة عن الفكرةٍ التي يُكوِّنها شخصٌ ما عن شيءٍ من الأشياء المُحيطة به. وقد نقول إن المفهوم هو التَّمثُّل la représentation الذي يُكوِّنه فكرُ شخصٍ ما عن الأشياء المُحيطة به. وعندما نقول "يُكوِّنه"، فهذا دليلٌ على أن فكرَ أو عقلَ الشخص تدخَّل في عملية التفكير la réflexion أو la pensée. والأشياء التي بإمكان الفكر أن يتمثَّلها se représenter، يمكن أن تكون مادية choses matérielles أو تجريدية choses .abstraites بينما الكلمة يمكن أن يُكوِّنَ عنها عقلُ الشخص فكرةً سطحية ويحتفظ بها في ذاكرته. لكن استعمالَها في جملٍ مفيدة قد يشوبُه بعض التَّذبذب hésitation وعدم الوضوح. لماذا؟
لأنه، عندما تتحوَّل الكلمة من وضعِها ك"كلمة" إلى وضعها ك"مفهوم"، إن لم يكن للشخص فكرة (تمثُّل) عنها ك"مفهوم"، فهنا يكمن عدمُ الوضوح. مثلا، هناك فرقٌ بين حاسوب ك"كلمة" وحاسوب ك"مفهوم". فالحاسوب ك"كلمة" عبارة عن آلة machine أو جهاز appareil. بينما الحاسوب ك"مفهوم" عبارة عن آلة إلكترونية لمعالجة المعلومات traitement de l'information وبإمكانها الحساب le calcul والتخزين la mémorisation…، وبصفة عامة، قادرة على القيام بعمليات مختلفة في وقتٍ وجيز. الفرق واضحٌ وضوح الشمس بين الحاسوب ك"كلمة" والحاسوب ك"مفهوم".
هذا هو ما حدث ويحدث بالنسبة للتَّجديد ك"كلمة" والتَّجديد ك"مفهوم".
التجديد ك"كلمة" له علاقة بفعل "جدَّدَ". بل التَّجديد هو مصدر فعل "جدَّد". والتَّجديد ك"كلمة"، هو الإِتيان بالجديد في جميع الأشياء apporter une nouveauté dans toutes choses. وهذا هو ما يترسَّخ أو يبقى مُترسِّخاً في ذاكرة كثيرٍ من الناس.
بينما التجديد ك"مفهوم"، فكل جهة تراه حسب ما تتوخَّى من اللجوء إليه من تحقيقٍ للمصالح والأهداف. وحتى إذا أدرك عامة الناس التَّجديد ك"مفهوم"، فجهات كثيرة ترى فيه وسيلةً لتحقيق مصالحها وأهدافها، كما سبق الذكرُ. وهذه الجهات كثيرة، أذكر من بينها : عالَم المعرفة، عالَم المقاولات، عالَم الطب، عالَم التِّكولونيا، عالَم الدين (علماء وفقهاء الدين)…
بعد هذه التَّوضيحات التي تجعلنا نُفرِّق بين "الكلمة" و"المفهوم"، فيما يلي، سأتطرَّق لتوضيح مفهوم "الخطاب". وحتى لا يكون هناك أي التباس في أدراك معنى "الخطاب"، كمفهوم، أثير الانتباهَ أن هذا المفهوم، حسب فنِّ البلاغة أو فنِّ الخطابة la rhétorique، يشمل الكلامَ الواضح والمُنسَّق الشفوي، الصًّأدر عن شخصٍ ما، الهدف منه هو إيصالُ هذا الكلام إلى المُتلقِّي لإقناعه أو لتسهيل إدراكه له.
غير أن اللسانيات la linguistique طوَّرت مفهومَ "الخطاب" وجعلته يشمل جميع أنواعه، سواءً كانت شفوية أو مكتوبة. بالنسبة للسانيات، "الخطاب" هو إنتاجٌ فكري صادرٌ عن العقل البشري أو عن المُخَاطِبِ le locuteur أو l'orateur.
وكما سبق الذكرُ، "الخطاب" له أهدافٌ. من بين هذه هذه الأهداف، هناك هدفٌ أساسي يتمثَّل في جعلُ المُتلقِّين les destinataires قد يقبلون أو لا يقبلون أو قد يقتنعون أو لا يقتنعون بالرسالة أو الرسائل les messages التي يحملها "الخطاب". ولهذا، فالخطاب مُوجَّهٌ لعقول المُتلقّين ولفِطنتهم ومنطقهم، أي المُتلقِّين الذين لهم الاختيار في الاقتناع أو عدم الاقتناع بمحتوى "الخطاب". والمُتلقُّون هم الجمهور le public أو auditoire المُوجَّه لهم "الخطاب".
فعندما نتحدَّث عن "تجديد الخطاب الديني"، فالجمهور هم المسلمون. والمُخَاطِبُونَ les orateurs هم علماءُ وفقهاءُ الدين. لكن، عندما نتحدَّث عن "تجديد الخطاب الديني"، فما هو الخطاب الذي ينتظره الجمهور؟
بكل تأكيد أننا، بمجرَّد ما نستعمل كلمةَ "تجديد"، فما بنتظره الجمهور، أي المسلمون، هو أن يأتيَ هذا الخطابُ بالجديد. وهنا بيت القصيد. لماذا؟
لأن التجديدَ، كعملية فكرية، مصدره العقل. والتَّجديدُ يقتضي أن يُترَكَ الخطابُ الديني القديم أو بعضُه، ليحلَّ محلَّه خطابٌ جديدُ. وهذا الخطاب، إن لم يكن إنتاجُه معتمِدا على العقلانية la rationalité، وعلى النَّقد la critique، وعلى الحكمة la sagesse، وعلى التَّحرُّر والتَّفتُّح الفكريين émancipation et épanouissement intellectuels، أي التَّنوير، وعلى التَّخلُّص من القوالب النمطية les stéréotypes والمُسلَّمات، أي ما لا يمكن تِبانُه فكريا…، وبالأخص، على ما يجري في الواقع، فهو ليس تجديد. إذن ما هو التَّجديد الذي ينتظره المتلقُّون أو الجمهور، أي ما هو التَّجديدُ الذي ينتظره المسلِمون؟
التَّجديد الذي ينتظره المسلمون، في الخطاب الديني، هو أن يتأقلمَ أو أن يتكيَّفَ هذا الخطابُ مع التَّغييرات التي تحدث في واقع المجتمعات الإسلامية. وهذه الأخيرة لا يمكن، على الإطلاق، أن تستثنيَ نفسَها عن باقي مناطق العالم. لماذا؟
لأن العالم أصبح، بفضل التَّطوُّر الهائل الذي عرفته وتعرفه وستعرفه مختلفُ وسائل التواصل والنقل والتنقل، عبارة، كما يقال، عن قرية شمولية village global، أي قرية مربوطةٌ مناطقُها، بعضُها بالبعض الآخر، بواسطة هذه الوسائل. بمعنى أن مفهومَ المسافة أو البُعد لم يعد له مكانٌ في التَّفكير البشري. كل حدثٍ أو خبرٍ أو تغييرٍ يحدث في منطقة من مناطق العالَم، ينتشر بسرعة فائقة، وقد يُغيِّر أسلوبَ أو منهجَ التفكير.
مع كل هذه المُعطيات، فهل تغيَّر أو تجدَّدَ الخطابُ الديني؟ لا، أبدا! لم يتغيَّر منذ قرون، رغم أن المجتمعات الإسلامية عرفت، كباقي المجتمعات غير الإسلامية، تقلُّباتٍ des bouleversements، بل طفرات des mutations في نمط العيش والتفكير والسلوك والعمل… لماذا؟
لأن علماءَ وفقهاءَ الدينِ، القدامى والحاليين، مُتشبِّثون، أيما تشبُّث، بقراءة واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة، بأعينِ أو بفكرِ الماضي. وهذا نوعٌ من الخلل الذي يجعلهم مُنعزلين عن الواقع الذي، بالنسبة لهم، تنطبق عليه أحكامُ الفقه الماضي. بمعنى أن ما يُنتِجونه من أفكار، في المجال الديني، صالح لكل زمان ومكان.
لكنهم ينسون أو يتناسون أن ما أنتجوه في القرون التي تّلَتْ وفاةَ الرسول (ص)، هو إنتاجٌ فكري نابعٌ من خلفياتٍ فكريةٍ، ثقافيةٍ واجتماعيةٍ معيَّنة. وهذه الخلفيات ناتِجة عن التَّفاعل مع الواقع الذي كانوا يعيشون في كَنَفه. بل هي التي، أي الخلفيات، قادتهم إلى إنتاج فِقههم. وهذا الفقه، إن كان ملائماً لزمانهم ومكانهم، فإنه غير صالح لعصرنا الحاضر الذي تغيَّر، رأسا على عقب.