نعيمة بنعبد العالي: منعطفات الرفض.. من الكلام المبطن إلى الصوت العاري

نعيمة بنعبد العالي: منعطفات الرفض.. من الكلام المبطن إلى الصوت العاري نعيمة بنعبد العالي

"والله من يدك ما حيّدتها"

هذه العبارة، التي كانت تُسمع مرات ومرات في صالونات فاس أو باحات سلا، لا تعني ما تعنيه. إنها لا تعد بشيء؛ إنها ترفض كل شيء. لكنها تفعل ذلك برقة، بقسم مقدس، يحوّل النقص إلى تواصل، والرفض إلى نعم معكوسة، والحدود إلى مداعبة لفظية. هناك، في هذه الصيغ الطقسية للرفض المُبطّن، تعلمتُ مُبكراً أن اللغة ليست مجرد أداة لوصف العالم، بل هي نسيج للحفاظ عليه سليماً - حتى عندما يتمزق في صمت. هذه الممارسة، شعرية واجتماعية على حد سواء، ليست مجرد كناية. إنها تُجسّد أخلاق ضبط النفس، وشكلاً حياً من آداب السلوك المنزلي، حيث لا يكون الأدب مسألة لياقة، بل مسألة بقاء في العلاقات. إنها تفضل المعاني المزدوجة على الصراحة، والصيغ المقدسة على الحقيقة الخام، لأن قول "لا" صراحةً من شأنه أن يخاطر بتحطيم ما لا يمكن للمجتمع أن يتحمل خسارته: سلام التفاهم المشترك.

ومع ذلك، يبرز اليوم صوت آخر - خام، مباشر. على شاشات تيك توك، تقول الشابات المغربيات: "أريد"، "أُظهر"، "هذا جسدي" - دون أن يقسمن بالله، ودون أن يتظاهرن بإعطاء ما لا يملكن. إن "أنا" الخاصة بهن ليست محجوبة؛ بل تُلوح كفعل حضور.

بين هذين النظامين من الكلام - أحدهما يقنع للحفاظ، والآخر يكشف للوجود - يتردد صدى نص قديم بشكل غريب: حكاية الضيف المستقر. يكتم راوٍ مهذبٌ وراقٍ غضبه على ضيف غير مرحب به، سجين أدبه. لا  يستطيع أن يطرده،  يتقبله في صمت،

كمن يقسم بالله أنه لن يسترد ما لم يُعطِ. يستكشف هذا العمل هذا الخيط الخفي: كيف أصبحت اللغة، في العالم العربي، فضاءً تُخفي فيه اللباقة الرفض، وكيف يُقلب هذا المنطق اليوم بأصوات تختار شفافية "الأنا" كفعل مقاومة؟

من خلال مثلث جديد - بين ممارسات اللغة العائلية، والأدب الساخر الكلاسيكي، والتعبيرات الرقمية المعاصرة - سنُظهر أن القضية الحقيقية ليست ما يُقال، بل ما يجرؤ المرء على عدم إخفائه. وأن هذا التحول من الحجب إلى الوضوح، يتجاوز بكثير مجرد تغيير في الأسلوب: إعادة تشكيل عميقة للعقد الاجتماعي، والجسد، وخطاب المرأة.

الرفض المستتر، قواعد اللباقة العائلية

في منازل فاس وسلا، وغيرهما من المدن المغربية، حيث تبدو جدرانها وكأنها تحمل أسرار أجيال، لا تقتصر وظيفة اللغة على مجرد التواصل: إنها تنسج، وتُصلح، وأحيانًا تُخفي. لا يقول المرء "لا" صراحةً، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالعطاء - أو عدم العطاء. فبدلًا من تحطيم التوقعات برفضٍ مُقتضب، يلجأ المرء إلى صيغٍ يُخفف جمالها من وطأة الحرمان. "أقسم بالله العظيم أني لن آخذها من يدك" إحدى هذه العبارات الشعائرية التي تبدو للوهلة الأولى وعدًا بالكرم، لكنها تعني بوضوح، في الاقتصاد الاجتماعي لهذه المساحات: لن أعطيك شيئًا. يُعاد هنا توظيف فعل "الأخذ" (نزع) بمهارة: فهو يفترض أن الشيء المطلوب موجودٌ بالفعل في يد المُطالب، كما لو كان مالكه الشرعي. ومع ذلك، فإن هذا الخيال بالتحديد - هذه الخدعة الصغيرة من المنْح الوهمية - هو الذي يسمح للمرء بالرفض دون إذلال.

هذه الصيغ ليست مجرد أدوات بلاغية؛ بل هي قواعد اجتماعية تتوارثها الأجيال، غالبًا ما تحملها نساء كبيرات في السن - خالات وجدات وجارات محترمات - يتقنّ فروقها الدقيقة كما يتقن غيرهن وصفات الطبخ الشعائري. إنهن يدركن أنه في سياق تندُر فيه الموارد وتتطلب فيه الروابط العائلية و سلوك الصداقة، أن قول "لا" مباشرةً يُعادل إحداث شرخ في نسيج القرابة و الجوار. عندها، يصبح الرفض المُبطّن أسلوبًا في العلاقات، فنًا للحفاظ على الانسجام مع وضع حدود. الأمر لا يتعلق بالخداع، بل بالحفاظ على كرامة الآخر - وبالتالي، كرامة المرء. ففي هذه العوالم، لا يُعدّ فقدان الكرامة إذلالًا فرديًا فحسب؛ بل فشلًا جماعيًا. هذه الممارسة جزء من أخلاقيات أوسع، تُعرف غالبًا باسم "الحياء"، وهي تدل على حساسية شديدة تجاه وجود الآخرين، وضبط نفس نابع من الاحترام المتبادل. الحياء ليس فضيلةً سلبيةً، بل هو قوةٌ فاعلةٌ في التنظيم الاجتماعي. يُملي على المرء ألا يُعرّض الآخرين للعار، ولا نفسه للوقاحة. وهكذا، عندما تطلب شابة حلة جديدة، أو عندما ترغب الصديقة في مساعدةً ماليةً، لن يكون الردّ أبدًا "لا أملكه" أو "لا أريد"، بل عبارةً تُجسّد رفضَ نذرٍ أو دعاءً إلهيًا أو أمنيةً مستحيلة: "أرجو أن يُعطيكِ الله إياه ألفَ ضعف!" "أرجو أن يُعطيكِ الله إياه في وقتٍ أنسب!" "ببركة والدكِ، لو استطعتُ لأعطيتكِ إياه!" أنت أهل لكل خير، وجهك أفضل، تستحقينه وأكثر. هذه العبارات لا تكذب: إنها تُلقي مسؤولية الرفض على قوةٍ أعلى - القدر، المشيئة الإلهية، سوء الحظ - وبالتالي تحمي العلاقة من أي اتهامٍ ضمني. قد يرى المرء هذه الممارسات شكلًا من أشكال النفاق. لكن من الأدقّ فهمها كتقنيات للتعايش، وُلدت في مجتمعاتٍ يُمثّل فيها التضامن الأسري غايةً وقيدًا في آنٍ واحد، وحيث لا ينبغي أن تُؤدّي الندرة الاقتصادية إلى تفكك اجتماعي. عندها تُصبح اللغة مساحةً للتفاوض الهادئ، حيث يُمكن للمرء أن يقول "لا" دون التلفظ بالكلمة، حيث يُمكن للمرء أن يقول "لا أستطيع" دون الاعتراف بعجزه أو أنانيته. إنه اقتصادٌ أخلاقيٌّ للهدية المرفوضة، حيث لا يكون المهم هو الشيء نفسه، بل كيف يُحافظ على الرابطة في غيابه.

صمت اللياقة: الضيف غير المرغوب فيه، في قصص التنوخي

إذا كانت صيغ الرفض العائلي الطقسية قد انعكست في المجال المنزلي، فإن الأدب القصصي العباسي يُقدم انعكاسًا بارزًا لهذا، لا سيما في ديوان أبي علي المحسن التنوخي (327-384 هـ/939-994 م). كان التنوخي فقيهًا وقاضيًا وأديبًا، وقد دوّن في أعماله - ولا سيما "نشوار المحاضرة" - مئات القصص التي تتحول فيها الأخلاق إلى سجن لطيف، وتتحول فيها الضيافة إلى عذاب صامت. إحدى هذه القصص، التي تُلامس ذكرياتنا العائلية، تروي حكاية رجل يستقبل صديق طفولته السابق في منزله. الضيف قذر، كريه الرائحة، وغير مهذب: يأكل بلا ضوابط، ويتكلم بصوت عالٍ، ويكسر الأشياء، ويطيل البقاء إلى ما هو أبعد من المعقول. ومع ذلك، لا ينطق المضيف بكلمة. لا يطرده. بل يطعمه، ويأويه، ويعامله باحترام - وهو غارق في غضبه الصامت. لا يحاول قطع الصلة، سواءً بدافع الولاء السابق، أو التواضع الاجتماعي، أو الخوف من النميمة.

فقط بعد أيام طويلة من الإحراج، يجد طريقة ملتوية - غالبًا ما تكون "هدية" رمزية أو تلميحًا مبطنًا - للدلالة، دون أن يقول ذلك صراحةً، على أن الضيافة تقترب من نهايتها.

 هذا مقتطف رمزي مستوحى من روح هذه القصص (مقتبس من "نشوار المحاضرة"، الجزء الثالث، ص 143): "فَمَا زِلْتُ أُكْرِمُهُ وَأُحْسِنُ إلَيْهِ، وَأَسْتُرُ عَلَيْهِ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ السُوءِ، وَأَتَحَمَّلُ مِنْهُ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ غَيْرِي، وَأقُولُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّهُ يَنْتَهِي، أوْ يَخْرُجُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَا أَشَاءُ أَنْ أُظْهِرَ لَهُ سُوءَ ظَنِّي فِيهِ، فَأَكُونَ قَدْ خَرَقْتُ حُرْمَةَ الضِّيافة، وخالفتُ ما تُؤْمِرُ به العادةُ والشرف."

هذه الفقرة تُتداول في عدّةِ حكاياتٍ للتنوخيّ بأشكالٍ مُشابهة. إنها تكشفُ عن الشللِ الأخلاقيّ للمُضيفِ: فهو لا يرفضُ بدافعِ اللطف، بل خوفاً من التمزقِ الاجتماعيّ. ضيافتُه سجنٌ لاثنين: أحدهما مُقيَّدٌ بفقرِه، والآخرُ بكرمِه. هذا المنطق يعكس تمامًا منطق ديناميكيات الأسرة المغربية: ففي كلتا الحالتين، تعمل اللغة (أو الصمت) على تجنب القطيعة، لا على التعبير عن الحقيقة. يفضل خيال الارتباط على حقيقة الرفض.

 يُؤكّد ج. ج. فان غيلدر، في تحليله لهذا النوع من السرد، على وظيفته: فهو لا يُعلّم، بل يُراقب. لا يُصدر أحكامًا على الشخصيات؛ بل يُمثّل التناقضات الأخلاقية. وهذا التناقض تحديدًا هو ما يجعل هذه الحكايات قريبةً جدًا من واقع عائلاتنا المعاصرة. المُضيف، يعمل في منطقة رمادية حيث لا يُمكن قول "لا"، ولا يُمكن الإبقاء على "نعم". ولكن هناك فرق دقيق، وجوهري: في المجال الأسري المغربي، غالبًا ما تُتقن النساء فنّ الرفض المُبطّن - ليس باختيارهنّ، بل لأنهنّ لا يملكن سلطةً سوى سلطة اللغة.

في قصص التنوخي، رجلٌ مثقف، يتمتع بسلطة، ومنزلة، وممتلكات، يُشلّه خوف النميمة. يكشف هذا الانقلاب عن حقيقةٍ عميقة: أن اللباقة، حتى بين من يتقنها، سجنٌ. ولعل هذا، أكثر من أي شيء آخر، هو ما يجعل هذه القصص تتردد أصداؤها عبر القرون: فهي تُظهر أن لا أحد ينجو من وطأة الحكم الاجتماعي، لا الفقير القبيح ولا الغني المتألق. لهذا السبب، ليست هذه الحكايات مجرد تسلية من العصور الوسطى: إنها انعكاسٌ لخجلنا، وصمتنا، وقسمنا التي يخفي رفضنا.

لكن، لهذا النظام من التهذيب جانب سلبي: فهو يُهيئ الظروف للاستغلال الصامت. من لا يعرف الحشمة - سواءً كان ماكرًا أو يائسًا - يُمكنه استغلال رقابة الآخرين. مضيف التنوخي ضحية قيد "الأدب الرفيع" كنقطة ضعف اجتماعية في عالمٍ يكاد يكون فيه قول "لا" مستحيلاً، يمتلك من يفتقرون إلى الحياء سلطةً هائلة. يمكنهم: إساءة استخدام الضيافة (مثل ضيف التنوخي الذي يبقى إلى أجل غير مسمى)، الابتزاز من خلال العار، تحويل الكرم إلى دينٍ دائم.

هذا ما يُظهره الجاحظ، على سبيل المثال، في كتاب "البخلاء": ليس البخيل دائماً من يرفض، بل أحياناً من يجيد استغلال كرم الآخرين بالتظاهر بالفقر أو الصداقة. وفي المقامات، ليس البطل أبو زيد السروجي لصًا عاديًا: إنه بارع في اللغة، يستخدم الشعر واليمين والتقوى الزائفة لانتزاع المال من كبار الشخصيات.

الازدواج سلاح الضعفاء: ليس كل "الانتهازيين" محتالين. كثير منهم مهمشون، فقراء، ومستبعدون، وسلاحهم الوحيد هو الخداع. المتسوّل الذي يبالغ في فقره، ابن العم البعيد الذي يلجأ إلى معروف قديم، الصديق السابق الذي يفرض نفسه عليك... يعلمون أنهم لا يستطيعون المطالبة - لكنهم يستطيعون الاستئناف. وفي مجتمع يفتقر إلى شبكة أمان اجتماعي، ليس هذا خداعًا: بل هو استراتيجية للبقاء. ولهذا السبب لا تكتفي الأدبيات الكلاسيكية بإدانتهم. تراقبهم بشفقة غامضة: إنهم عبء ثقيل، وبغيضون أحيانًا... لكن النظام هو من خلقهم. توازنٌ غير مستقر: الحماية مقابل الافتراس. وهكذا، تُنتج الآلية الاجتماعية نفسها أثرين متعارضين: للشرفاء: قيدٌ يخنق حريتهم، ويُجبرهم على إخفاء حدودهم، ويُعرّضهم للإساءة: ثغرةٌ قابلةٌ للاستغلال، بابٌ يفتحه الأدب نفسه. وهنا تكمن المأساة الاجتماعية: تصبح الفضيلة ضعفًا، كبحًا، دعوةً للتجاوز، فخًا. لهذا السبب لا تروي النصوص هذه المشاهد بفكاهة فحسب: بل ترويها باهتمامٍ أخلاقي. كما لو أن الراوي يتساءل في صمت: "هل أحافظ على الصلة... حتى لو؟  يُصبح التنوخي الشاهد الأدبي الأمثل على أخلاقيات المراوغة حيث يحوّل التوازنُ الاجتماعي الكرمَ إلى ضعف.

أليس هذا بالضبط ما نلاحظه اليوم؟ في العائلات التي لا يُمكن فيها رفض قرض خوفًا من اتهام بالجحود، في الأحياء التي يُجبرك فيها "حسن الجوار" على تقبّل المُتهور، الصاخب، المُتطفل، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تُتّهم المبدعات بـ"الجحود" بمجرد انتقادهنّ لتوقعات العائلة. 

وضد هذه الوصية المزدوجة تحديدًا - "كن خيرًا"، ولكن "لا تغتر" - تحاول لغة اليوم المجردة شقّ طريقها الخاص بكل قوة.

 في مواجهة هذا الحياء تحديدًا، ترتفع اليوم أصواتٌ جديدة: أصواتٌ ترفض أن تُقسم بالله ما لا تستطيع الوفاء به، وتُفضل أن تقول بوضوح: "لا. ليس لك.

الأنا المتجاوزة: قطيعة مع أخلاقيات الالتفاف

في صالونات فاس، لا يُقال "لا". في حكاية التنوخي، لا يُطرد المتسلل. أما على تيك توك، فتنظر شابة مغربية إلى الكاميرا وتقول: "لا، لا أريد " "بلى، أخرج وحدي ليلًا." "لا، لن أغطي شعري إرضاءً لأخلاقك." هذه الجمل التي تبدو بسيطة هي أفعال حرب رمزية. إنها لا تتحدى مجرد قاعدة، بل ترفض لغة التفاوض المُبطّن. فبينما أقسمت الجدة بالله أنها لن تسترد ما لم تُعطِه، تقول الشابة بوضوح: "لا أُعطي شيئًا، ولا أُبرّر نفسي." هذا ليس نقصًا في الاحترام؛ إنه إعادة ابتكار للاحترام - احترام يبدأ من الذات، لا من الآخرين. هؤلاء المبدعون - غالبًا من نفس المدن، نفس العائلات، نفس الساحات الداخلية - يعرفون جيدًا قواعد المراوغة. سمعوها من أمهاتهم، وخالاتهم، وجيرانهم. ولأنهم شعروا بقبضتها اختاروا الآن كسر هذه الشفرة. "أناهم" ليست أنانية؛ إنها مُحررة. لا تسعى للإذلال، بل للوجود دون استئذان.

يلعب الفضاء الرقمي دورًا حاسمًا هنا. تيك توك، وإنستغرام، ويوتيوب ليست مجرد منصات؛ إنها عتبات رمزية - أماكن يمكن للمرء أن يتجاوز فيها درج منزل العائلة دون أن يتخلى عنها تمامًا. غالبًا ما تُصوّر الشابة من غرفة معيشتها، أو مطبخها - وهي نفس الأماكن التي تردد فيها  صدى صيغة الرفض المُبطّن. لكن هذه المرة، تتحدث بضمير المتكلم، دون وساطة، أو لف ودوران.

هذه المباشرة ليست خالية من المخاطر. لكنها تستمر - ليس بدافع الاستفزاز، بل بدافع الضرورة الوجودية. ففي عالمٍ يُعلّم فيه المرء منذ الصغر الكلام دون أن يتكلم، يُصبح الكلام بوضوحٍ فعلَ ولادةٍ جديدة. وهنا يحدث الانقلاب: حيثُ تَساهل المضيف، حيثُ رفضت الجدة، مُقسمةً على العطاء، تُصرّ شابة اليوم دون أن تطلب، وتُعطي صوتها دون أن تُخفيه.

ومع ذلك، يبقى شيء من "الجدة" في المبدعة الشابة. ليس أثرًا للخضوع، بل ثنية حميمة، شكل من أشكال الولاء لمن حافظوا على العائلة بكتم رغباتهم. لهذا السبب، "أناها" ليست مطلقة أبدًا: ترتجف، تبالغ، وتختفي أحيانًا. تيك توك ليس منفىً، بل ملجأ مؤقت - غرفة معيشة غير مرئية حيث يمكن للمرء أن يحاول الوجود دون منعطفات، مع العلم أن باب الدار لا يزال مفتوحًا. وهذا التوتر تحديدًا - بين الصوت الصامت والقسم القديم - هو ما يمنح كلماتها قوتها المأساوية... وأصالتها العميقة.

وهكذا، من فاس إلى تيك توك، ومن خلال مخطوطات بغداد، يُطرح السؤال نفسه: كيف نقول "لا" دون أن نكسر الرابطة؟ أجاب التراث: بإخفاء الرفض في ثوب القسم. أجاب الأدب الكلاسيكي: بحصر الغضب في صمت المجاملة. لكن اليوم، يُجيب جيلٌ جديد: "ماذا لو لم يكن الرابط بحاجةٍ إلى أكاذيب ليصمد؟" لعلّ مستقبل الأدب لا يكمن في ازدواجية المعاني ولا في الاستفزاز، بل في كلماتٍ عادلة، واضحة، وحرة - كلماتٍ تجرؤ على قول: "لم آخذه منك... لأنه ملكي".

 

هذه ليست لعبة. وليست مجرد "خلفية أدبية". ما نعرّفه كقيد هو في الواقع نظامٌ مُعقدٌ وعقلاني... ومأساويٌّ للبقاء الاجتماعي. لماذا قامت حضارةٌ مُثقفةٌ كهذه، ومنفتحةٌ على العقل (الفلسفة اليونانية، والمناظرات اللاهوتية، والنقد الأدبي، والعلوم) ببناء لغةٍ اجتماعيةٍ لا تُقال فيها الحقيقة، ويجب فيها إخفاء الرفض، وكتمان الغضب؟ لا يكمن الجواب في نقص الشجاعة، بل في ثلاثة منطلقاتٍ هيكلية، متجذرةٌ بعمق في النظام الاجتماعي والسياسي والرمزي للعالم العربي الإسلامي الكلاسيكي ( بين القرنين الثامن والخامس عشر) - والتي لا يزال صداها يتردد حتى اليوم.

 

لماذا طورت حضارة منفتحة على العقل والفلسفة لغة اجتماعية تخفي الحقيقة؟ الجواب في ثلاثة أسس هيكلية:

أولوية التماسك المجتمعي: في غياب دولة الرفه، كانت الروابط الشخصية هي الضمانة الوحيدة ضد الفقر والعنف. أي رفض صريح يهدد النسيج الاجتماعي، فابتُكرت استراتيجيات لغوية للرفض دون قطع العلاقات.

ثقافة الشرف والعار المشترك: الإهانة فردية كانت تعني إذلال العائلة كلها. فكانت لغة التهرب درعاً ضد العنف الرمزي، تحول الرفض إلى دعاء يحفظ شرف الطرفين.

الفصل بين الفضاء العام والخاص: المجال العام تطلب الالتزام بالشكليات، بينما الخاص سمح بالتجاوز – لكن بشرط ألا يفيض. الحرية كانت ممكنة في الفكر، لكن التصريح بها اجتماعياً كان مجازفة.

هذه المأساة العميقة لحضارة مهذبة ومنطقية: ابتكرت ألف طريقة للقول دون قول، لكنها لم تجرؤ على صياغة لغة تتحدث بحرية دون أوزان اللياقة. وهذا ما تحاول أصوات اليوم فعله: لا رفض الماضي، بل تجرؤ على ميثاق جديد – حيث لا تعتمد الروابط على الأكاذيب، بل على حقيقة مشتركة، هشة لكنها حرة.