محمد الصديقي: المؤتمر الوطني السابع للكدش.. الخطاب المحايث

محمد الصديقي: المؤتمر الوطني السابع للكدش.. الخطاب المحايث محمد الصديقي
تمهيد:
ينعقد المؤتمر السابع للمركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل أيام 28 و 29 و 30 نونبر 2025 ببوزنيقة، تحت شعار "الوفاء لمبادئ التأسيس ومواصلة النضال الاجتماعي والديمقراطي" وماذا بعد؟ من يدري؟ من يتابع؟ من يناقش؟ بل، من يهتم؟ ...
 
خارج أسوار المقرات، وهياكل الكونفدرالية لا أحد يهتم ويتابع إلا طرفان على الأقل، الدولة ومناضلو النقابة. غالبية مناضلي النقابة يهتمون للحدث من باب الواجب التنظيمي والإيمان المبدئي بإنجاح المؤتمر بما يمكن من تأكيد وحدتها وانسجامها، والدولة وأجهزتها تتابع الحدث لاعتبارين على الأقل: أولهما أن مراقبة تحركات أدوات الفعل المجتمعي واجب عليها لضبط إيقاع وعيه وأفق مطالبه وأدواته المتاحة في المرافعة عليها، وثانيهما يرتبط بتاريخ هذه المركزية "المشاغبة" وما أحدثته من إزعاج للدولة والسلطة معا عبر محطات فرضت تغييرات في مخططاتهما واستراتيجياتهما في ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع بوساطة السلطة.
 
1 – أين المجتمع؟
يتم التعبير عن هذا الذي نسميه مجتمعا من داخل النقابة وغيرها، ولا سيما في الإعلام، بمصطلحات عدة: الشعب، الجماهير الشعبية (هل هناك جماهير غير شعبية؟)، المواطنون، عموم الشعب، وعند التخصيص يُقال: القواعد، الطبقة العاملة، القطاعات المهيكَلة، الجماهير وعموم الكادحين، العمال والفلاحون والأجراء والمستخدمون...، من يفرِض على المتلقي هذه المصطلحات باعتبارها مفاهيم؟ ومن يعتبر أن تلقيها يكسبها معنى / مفهوما واحدا كان أم متعددا؟ أي هل المتلقي، عندما نستعمل مصطلحا دون آخر، يفهمه في ذاته ويميزه عن مصطلح آخر لم يُستعمل في الخطاب؟
 
قد يبدو، تبعا لذلك، أن إنتاج الخطاب يستدعي بالضرورة توافقا ضمنيا حول حمولته الدلالية، وهذا يعني أن هذه الحمولة ستبقى محصورة في دائرة التوافق حول الدلالة والمعنى، وهكذا سيكون إدراك الخطاب محصورا في الذين يفهمونه من داخل البنية التنظيمية فقط. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه من الواجب أن تكون قواعد مؤسَّسة إنتاج الخطاب متجانسةَ ومتقاربةَ الوعي والثقافة، وهو أمر غير متوفر حاليا على الأقل، والدليل على ذلك أن الدولة، تضطر، أحيانا، إلى إنتاج خطاب بمصطلحات مستقاة من خطاب الممانعة، ولو بحمولة مغايرة بل مناقضة أحيانا؛ فمقترحات تقليص امتيازات التقاعد التي كان يتمتع بها الموظف وتقزيمها سُميت بالإصلاح (إصلاح صناديق التقاعد)، وخوصصة التعليم سُميت شراكة (بين القطاعين الخاص والعام)... وهكذا، يصبح الخطاب مخاتلا بما يجعل الإفساد إصلاحا، والاستغلال تعاونا، والاستبداد ديمقراطية، والتطبيع سلاما... ....
 
أين النقابة؟ وأين المجتمع؟ وقَع الطرفان بحكم "قوة" خطاب الدولة في مفارقة كبيرة؛ فبحكم خبرة النقابة وتاريخها وصراعها مع الدولة اكتسبت قدرة على التنبؤ بمخططات هذه الأخيرة، وأنا لا أزعم أن هذا قدَر الكدش بمفردها، ولكنها على الأقل تجرؤ على التصريح به علنا، داخليا وخارجيا، وفي جانب آخر من المفارقة نفسها هناك انحسار في فهم هذه المخططات عند نسبة ضئيلة من منتسبي النقابة فبالأحرى عند باقي "الطبقة العاملة" و"عموم الأجراء والكادحين" و"الجماهير الشعبية"... ذاتِ التكوين الثقافي والنقابي المحدود. وهو ما يجعل خطاب الدولة والسلطة يجرؤ كثيرا على سرقة بعضٍ من خطاب المعارضة وتبنيه بكل ثقة في استمالة الرأي العام ومن ضمنه بعض من منتسبي المعارضة (مثال: مفهوم الدولة الاجتماعية).
 
إذن، فالنقابة لزمت موقعها، وموضِعها، طبقا لمرجعيتها، ولكنها لم تتمكن من ترسيخ خطابها بالشكل الذي يجعل التواصل النقابي تداولا اجتماعيا. بينما الدولة نحت بنفسها عن السجال بكامله وجعلته اختصاصا للسلطة لتتحكم في نتائجه مهما كانت مداخله، ولذلك فخطاب الدولة عام فضفاض يوحي بالإيجابية المطلقة، ويصبح خاصا مخصوصا في خطاب السلطة، ولذلك فالدولة نفسها تحرص على عدم استعمال لفظ السلطة إلا قليلا، فالدولة مفهوم ضروري ووجودي وبه يحتمي المجتمع دولة وشعبا ومؤسسات، لكن السلطة إرادة مؤقتة وإجراءات تخضع للقوة والتجاذب ويمكنها أن تحاسَب وتُغيَّر حسب ما نُسب إليها من أخطاء وضرورات التاريخ والسياسة، ولذلك فالدولة تُغَيَّر ولا تَتَغَيَّرُ، فبعد أحداث حراك الريف لم تتغير الدولة ولكن تغيرت السلطة وتم إعفاء وزراء ومسؤولين وتحميلهم مسؤولية الأحداث، وفي الوقت نفسه تم اعتقال الحراكيين ومحاكمتهم بما يفيد أن السلطة كانت ستقوم بواجبها تجاه الفاسدين، ولكن هناك من تسبب في عرقلة مسارها، بما يجعلنا نفهم أن الدولة تنتج خطابا يحارب الفساد والسلطة تعرقله، أحيانا، أو تحاول عرقلته.
 
أين المجتمع؟ إذا اعتبرنا أن المجتمع، على الأقل من موقع النقابة والطبقة العاملة، هو ذاك الوسط الذي يمكن تأطيره وتوجيهه من داخل قوة العمل، أي أن العامل الذي يبيع قوة عمله يُفترض فيه نقل معادلة قوة العمل مع الأجر إلى محيطه، وهو ما يساهم في تشكيل وعي عام / رأي عام، بعد تدخل الإعلام ومؤسسات التوازن المجتمعي بما يؤسس لوعي حول طبيعة التعاقد القائم بين رب العمل واليد العاملة، وسيحقق ذلك، نسبيا، الاستقرار المجتمعي ولو بصفة مؤقتة. لكن المجتمع، في هذه المعادلة، يقع في دائرة المتأثر لا دائرة المؤثِر، والحال أن النقابة، من حيث تدري أو لا تدري، يجب أن تكون مُؤَثِّرَةً، ما لا يجعلها مجرد رد فعل على رأي / تحرك المجتمع، وبالتالي يجعل النقابة لا تنتج خطابا رصينا، بل خطابا تبريريا مغازلا لفعل / تحرك المجتمع.
 
بين فعل المجتمع ورد فعل النقابة والدولة تُنتَج خطابات عدة لها من التأثير والتأثر الشيء الكثير، فالفعل ثابت، وقد يكون رد الفعل كذلك، لكن الذي يعطي للفعل ورد الفعل مشروعيته هو الخطاب المساير له أو الذي يأتي بعده، هذا، إذا افترضنا أن الخطاب القبلي للفعل فيه من النقد والتبرير الشيء الكثير، لكن قليله قد يفضي إلى فعل مجتمعي مؤثِر. من هنا نفهم أن فعل المجتمع خارج المؤسسات طارئ بمعنى ما، هناك من يحاول بناءه ويبحث سبل تحفيزه ليطفو على السطح لكنه لا يتحول إلى فعل إلا لماما، بما أن الدولة اكتسبت خبرة في التعاطي مع الحراكات، بما يجعل بداية حلها تتم في مستوى أول هو الخطاب، ثم، بعد ذلك، تتم في مستوى الفعل (محاكمات، إعفاءات، مشاريع...).
 
في هذا النسق من العلاقات يبقى المجتمع غير مضبوط لا من جهة هيئات الممانعة وضمنها النقابة ولا من جهة الدولة، بما يجعل الترقب فعلا دائما ولا سيما من الدولة، وهو ما يفرض عليها حرصا كبيرا وتمويلا مهما في التتبع والرصد والتوقع والمتابعة والتحليل.
 
المجتمع، إذن، تحول من مؤطَر إلى قائد عفوي تحكمه أحيانا الصدفة وتراكم أفعال الدولة وتأثير خطاب مستقل ولو في ظاهره. ولذلك فالتعويل عليه يبدو صعبا من حيث قدرة مؤسسات الممانعة في استثارته وقيادته وضمان استمرار فعله وتحقيق نتائج محصنة ضد التراجعات.
 
1 – أين النقابة؟
لا أحد يشك في تاريخ مركزية كدش في مواجهة الدولة والسلطة معا، ولا أحد ينكر ما قدمته من تضحيات لصالح المجتمع، ولكن هذا كله يبقى حبيس ذاكرة الدولة وعدد معين من المنتسبين إلى النقابة، أو الذين عايشوا المرحلة أو قرأوا عنها، لكن مدى تأثير ذلك مجتمعيا يبقى رهين نسبة الانخراط فيها عضويا أو ثقافيا (الهيمنة الثقافية).
وفي لحظة المؤتمر الوطني، من باب التشييد لفكر واع، تحرص النقابة على الوضوح الفكري بحكم وفائها لمبادئ التأسيس، والتوازن التنظيمي بحكم رغبتها في استشراف المستقبل بأدواتها التنظيمية. وهنا مفارقة كبيرة تقتضي تفكيرا عميقا ووضوحا مع الذات على الأقل.
الخطأ الأكبر في النقابة هو ربط الفكرة الكونفدرالية بالأشخاص أو بالتنظيم، الفكرة الكونفدرالية يجب أن تُربط بالزمن الكونفدرالي (الوفاء لمبادئ التأسيس) وبالمعرفة بما هي أساس إعطاء مبادئ التأسيس راهنيتها الاجتماعية والسياسية (ومواصلة النضال الاجتماعي والديمقراطي)، ترهين المبادئ لا يمكن أن يتم بالأشخاص، ذلك أن الوفاء للمبادئ ليس رهينا بالوفاء للأشخاص حتى لو كانوا من المؤسسين لهذه المبادئ، إلا إذا برهنوا على قدرتهم على الوفاء للمبادئ والأفكار في تاريخانيتها، أي بما يجعلها فعلا متطورا وتراكميا لبنيات التفكير والمعرفة.
 
وصراحةً، لا يمكن للنقابة أن تؤدي هذا الدور بمفردها، لسببين على الأقل: أولهما أنها تناضل بالدرجة الأولى من أجل مطالب اجتماعية بحكم تركيبتها وطبيعة قواعدها، وثانيهما أن تركيبة قواعدها غير متجانسة وأغلبها غير معني بربط المطلب الاجتماعي بأي إطار سياسي، ولأن الدولة ربطت الديمقراطية بعدد أصوات المصوتين فقط، فإنه أصبح على عاتق النقابة ومؤسسات الممانعة أن تقوم بمجهود كبير في تأطير المصوتين بأفكار اجتماعية أساسا خارج ما هو سياسي ديمقراطي، وهو ما يدفع قسرا إلى ترسيخ ديمقراطية المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة غالبا، والخاصة هنا لا تعني بالضرورة الأفراد بل قد تتجاوزهم إلى الفئات والجماعات واللوبيات والمناطق المجالية وغيرها، بمعنى أن مسألة التعميم قانونا أو تدبيرا يجب إعادة النظر فيها، بما يفيد أن ما يصلح لمنطقة أو مجال أو فئة قد لا يصلح لغيرها، وهنا ينبغي التذكير أن تعميم التدبير غير تعميم المبدأ، فعندما تعلن الدولة مبدأ تعميم التغطية الصحية، فإن الخطاب لا يعكس الحقيقة، فالتعميم لم يتم بعد، ويصعب تحقيقه، ولكنه خطاب يفيد المؤمول تحقيقه عند المتلقي أكثر من المدبِر الذي لربما لا يرغب في تحقيق هذا التعميم لأنه يتناقض ومبادئه المتعلقة بالفكر الليبرالي الربحي. لذلك فخطاب التعميم لا يعني تأبيد المبدأ عمليا ولكنه يعني استثمار خطاب لصالح إمكانات التراجع عن المبدأ بسهولة، مع إمكانية إنتاج خطاب تبريري بيسر. والدليل على ذلك أن الدستور نفسه يجعل العديد من العناصر مبادئ أساساً له، لكنه في بنود أخرى نراه يتراجع عنها، فعندما يعلن أن المواثيق الدولية تسمو على القوانين الوطنية فإنه يتظاهر بتعميم المبدأ، لكنه عندما يصرح بربطها بما بثوابت الأمة فإنه يلغي هذا التعميم لصالح تعميم التدبير، ويقصد بالضرورة أن التدبير المرغوب من الدولة يتم تصريفه عبر السلطة، لذلك فقد تزكى السلطة استنادا إلى مصلحة تعميم المبدأ، وقد تعاقب استنادا إلى مصلحة تعميم التدبير.
 
في ظل هذا التأرجح الفكري والمعرفي والتدبيري، تقع النقابة بين توجهين، إما إقامة موقف الوعي بمبادئ التعميم مبدئيا وتدبيريا، وبين التعميم الجزئي الذي يفضي إلى تجاذبات بين منخرطيها، علما أن مدخل الاتفاقيات الجماعية قد حل جزءا من هذه الإشكالات وهو ما يبرر تهرب الدولة من حث سلطاتها على الانخراط في إبرام الاتفاقيات الجماعية، ولكن في بعض المصالح الأخرى ولا سيما في الوظيفة العمومية مثلا، مازال التجاذب بين المصالح سيد الموقف، وهو ما يجعل انتصار النقابة لفئة / مصلحة على حساب أخرى يحكمها العدد لا الحق. وذلك لأن الدولة فرضت منطق العدد على حساب منطق الحق في الأصوات.
 
في ظل هذه الوضعية المركبة والمعقدة؛ مركبة باعتبار تداخل العديد من العناصر فيها، ومعقدة باعتبار صعوبة تحليل كل عنصر منها في علاقته بباقي العناصر اتساقا وانسجاما، دلالة ومعنى، تجد النقابة نفسها بين إمكانات تفكيك المركب وتبسيط المعقد، وبناء الدلالة والمعنى الكونفدراليين. ما يقتضي بناء خطاب يزاوج بين إقناع المنتسب وغير المنتسب مع استحضار الفوارق بينهما، وبين إقناع / الضغط على الخصم لتقديم تنازلات لتحقيق مكاسب تؤكد خطاب النقابة لمنتسبيها وغيرهم. وهو ما يجعل الخطاب الكونفدرالي أيضا يتأرجح بين الرضا والإرضاء، وهي معادلة تقتضي مستويات عدة من استحضار مقومات الذات ومتغيرات الحاضر والمستقبل بما يمكن من إنتاج خطاب يقبل التواصل مع مستويات مختلفة من التلقي، ويضمن انسجامه مع ذاته. ولا شك أن هذه المهمة صعبة وتقتضي من المخاطِب مستوى معرفيا رصينا، وهو الشيء الذي مازال غير متحقق، على الأقل، في بعض المجالات والهيئات المختلفة.
 
على سبيل الختم:
تظل الكونفدرالية الديمقراطية للشغل مركزية رسمت جزءا من تاريخ المغرب السياسي نضالا وخطابا، مؤازَرة في ذلك بحلفائها السياسيين والثقافيين على الخصوص، ووسمت بخطابها في مراحل معينة الخطاب الاجتماعي والسياسي العام في البلاد، بحيث كان المناخ العام يحكمه النضال المسؤول بمرجعية معرفية وبوصلة أيديولوجية وتراكم تاريخي مضبوط، وإذا علمنا أن هذا التراكم نضالا وخطابا ساهم في الحفاظ على الذات الكونفدرالية وإن خفُتَ شيئا ما الوهج التنظيمي والزخم النضالي من حيث الكم لا الكيف، فإن محطة كهذه؛ المؤتمر الوطني السابع، مطالبة، في رأيي، بالإجابة عن أسئلة مفصلية ومحدِدة منها:
- كيف يمكن الوفاء لمبادئ التأسيس في ظل تطور المعرفة بما يمكن من إنتاج خطاب جديد من حيث أدواته المعرفية والمنهجية، ويحافظ على أصالته من حيث المعنى والجدوى؟
- كيف يمكن جعل الزمن الكونفدرالي وفيا لمبادئ التأسيس معرفيا وتنظيميا ونضاليا بما يقنع المجتمع بمواصلة النضال الاجتماعي والديمقراطي على أرضية الوفاء هذه؟
- هل من الضروري الحفاظ على الذات الكونفدرالية من خلال البعد التنظيمي أكثر من البعد النضالي، بحيث يقوم تحصين التنظيم باعتماد قائمة "الأوفياء" في مسؤوليات بعينها حتى ولو كانت على حساب تحقيق الزخم في شتى إمكاناته؟
- ما الضوابط التي بإمكانها أن تجعل من الصراع الاجتماعي رافدا للصراع السياسي بما يفتح أفقا لإعادة النقاش العمومي في المسألة الدستورية؟
.....