منذ سنوات طويلة والحديث عن إنشاء مركز ثقافي مغربي بباريس يتحرك مثل ظل يخضع لقوانين الضوء أكثر مما يخضع لإرادة البشر. مشروع يلوح في الأفق كما لو أنه على وشك أن يتحقق، ثم يتراجع خطوة إلى الخلف، كأن الزمن نفسه يمارس لعبة شد الحبل مع الفكرة. وبين كل إعلان وتأجيل، يتجمع في الصدور إحساس مقلق بأننا أمام حلم يتقن فن البقاء معلقا، لا يموت ولا يولد، فقط يستنزف صبر من ينتظرونه.
باريس، بعجرفتها الثقافية الهادئة، لا تعطي مكانا إلا لمن يصر على أن يأخذه لا لمن ينتظر أن يمنح له. ولهذا يبدو إنتظار إفتتاح مركز ثقافي مغربي فيها نوعا من سوء الفهم بين الإرادة والواقع. لأن ما يحرك الدول ليس مقدار ما تريده، بل مقدار ما تقرر أن تفعله.
قد يقول نيتشه إن الأمل أسوأ الشرور لأنه يطيل عذاب الإنسان. وربما ينطبق ذلك على هذا المشروع الذي طال إنتظاره حتى صار المختبر العملي لهذه المقولة الفلسفية. فالأمل هنا لم يعد حافزا بل تحوّل إلى نوع من التخدير السياسي؛ يخفف الألم لكنه لا يعالج السبب. كل سنة تروى القصة نفسها: قريبا، قريبا جدا، مجرد ترتيبات، مجرد توقيعات، مجرد ملفات عالقة. وكأن الفكرة تحتاج إلى جيش من الأعذار لكي تبقى في منطقة اللا-قرار.
لكن هل المشكلة في باريس حقا؟ أم في الطريقة التي ننظر بها إلى دور الثقافة في السياسة الخارجية؟ فالمراكز الثقافية ليست بنايات توضع على خرائط العواصم الكبرى. إنها أدوات نفوذ ناعمة، قواعد فكرية تشتغل على المدى الطويل، مساحات تزرع فيها الدول سرديتها الخاصة في تربة الآخرين. فرنسا تفهم ذلك. إسبانيا تفهم ذلك. الصين تفهمه أكثر مما يجب. المغرب - بثقافته الغنية وتاريخه الواسع وموقعه الاستراتيجي المتعدّد الأبعاد - نفسه يمارسه في إفريقيا بنجاح. فلماذا نتردد حين يتعلق الأمر بباريس، المدينة التي يستقر فيها أكبر حضور مغاربي خارج المنطقة؟
إن غياب المركز الثقافي المغربي في باريس ليس مجرد نقص في البنية الثقافية، بل نقص في هندسة الحضور. حضور ليس المقصود به الجالية فقط، بل المجتمع الثقافي الفرنسي، الباحثون، الناشرون، السينمائيون، الأكاديميون، صناع القرار. فإذا لم تكن لنا منصة تشتغل يوميا في قلب العاصفة الثقافية الأوروبية، فسنظل نتعامل مع صورتنا في الخارج كشيء يصنعه الآخر ثم نكتفي بتصحيحه لا بصناعته.
المسألة إذن ليست: لماذا تأخر المركز؟ بل: لماذا نقبل نحن باستمرار هذا التأخير؟ هل ينتظر المشروع لحظة سياسية معينة؟ إرادة كافية؟ ميزانية؟ أم أن المشكلة أعمق: إننا في بعض الأحيان نخشى أن نجلس إلى طاولة الكبار بينما نملك كل المؤهلات لذلك.
الوقت يمر، والمشاريع الكبرى لا تحتمل المزاج ولا الانتظار. والمغرب اليوم، وهو يعيد رسم أدواره الإقليمية والدولية بثقة أكبر، بحاجة إلى التوقف عن التعامل مع باريس كحاضنة ثقافية طبيعية للمغاربة، والبدء في التعامل معها كساحة نفوذ يجب التواجد فيها بشروط مغربية كاملة. فالبلاد التي تبني الموانئ والطرق والجامعات الكبرى لا يعقل أن تتعثر عند باب مركز ثقافي.
ربما كان نيتشه محقا حين قال إن الأمل يطيل العذاب، ولكن ما لم يقله هو أن العذاب يصبح نموذجا للحياة حين نعتاد عليه. ولذلك فإن لحظة القطع باتت ضرورية: إما أن يتحول الأمل إلى قرار، أو أن نعلن أن المشروع ليس أولوية. فالبقاء في المنطقة الرمادية أسوأ من الرفض نفسه. باريس لن تتحرك نيابة عنا. الزمن لن يفتح الباب من تلقاء نفسه. وما ننتظره لن يأتي ما لم نقرر نحن أن نذهب إليه.
بهذا فقط يتحول الأمل من شر يؤجل الفعل إلى قوة تدفعه. وهذا، لعلّه، الدرس الفلسفي والسياسي الذي نحتاجه اليوم قبل أي حجر أو واجهة أو لافتة.