عبد الرفيع حميدي في كل مرة يطل فيها اسم جديد على الساحة الثقافية أو التربوية أو حتى الجمعوية تخرج أصوات لا تناقش مضمون ما يقدّمه، بل تتوجه مباشرة نحو التشكيك في أصالة إنتاجه وشرعية إبداعه. كأن الإبداع حكرٌ على فئة بعينها، وكأن الكتابة امتياز لا يناله إلا من مرّ عبر نظام المصادقة الذي تفرضه نخب تقليدية تخشى التغيير أكثر من خشيتها التفاهة هذه الظاهرة التي تبدو في ظاهرها مجرد اختلاف في الرأي، تخفي خلفها بنية كاملة من العنف الرمزي بنية تُسهر على ضبط موازين القوة داخل الحقول الثقافية والمدنية عبر سلاح واحد هو تبخيس إنجازات الآخرين
الاعتراف… المُكوّن الغائب في الثقافة العربية
المجتمعات التي تُثمّن الإبداع تبدأ أولًا من الاعتراف أما مجتمعاتنا، فغالبًا ما تبدأ بالشك. فبمجرد أن يطلّ كاتب شاب، أو باحث جريء، أو مبدع قادم من خارج الدوائر التقليدية، يجد نفسه أمام سؤال واحد يُطرح بإلحاح يكاد يكون إدانة مسبقة
هل كتبت هذا حقًا
لا تُناقَش الفكرة في عمقها، ولا يُنظر إلى الجهد المبذول فيها، ولا تُقدَّر سنوات التراكم التي قادت إليها فالمهم في ميزان الاعتراف المقلوب هو أن صاحبها ليس من الأسماء التي اعتدنا أن تُبدع وهكذا يتحول الإبداع إلى فعل مشبوه، لا يُصدَّق إلا إذا خرج من مصدر مألوف، أو من شخص يحمل رصيدًا رمزيًا يسمح له بالعبور عبر بوابة الاعتراف المغلقة
أسباب الظاهرة: حين يلبس الخوف لباس النقد
تنبع ظاهرة تبخيس الإبداع غالبًا من بنية نفسية واجتماعية معقّدة تتقاطع فيها الخوف، والنرجسية، واحتكار المعرفة، وغياب العدالة المؤسساتية فأول أسبابها هو الخوف من المنافسة إذ يخشى بعض الحراس القدامى أن يسرق القادمون الجدد الضوء منهم، فيلجؤون، حين يعجزون عن مجابهة النجاح بالنجاح، إلى مجابهته بالتشكيك، وكأن نجاح الآخر تهديد مباشر لوجودهم يلي ذلك ما يمكن تسميته بـالنرجسية المعرفية تلك الحالة التي يتوهم فيها البعض أن معيار الإبداع يبدأ وينتهي عندهم وعند حدود تجربتهم، فلا يرفضون فكرة الآخر فحسب، بل يرفضون وجوده الرمزي داخل الحقل ذاته
ويزداد الأمر تعقيدًا مع احتكار المعرفة فبعض الحقول ما تزال أسيرة منطق الحرفية القديمة، حيث يُنظر إلى المعلّم أو الخبير على أنه المصدر الوحيد للحقيقة، بينما يُفترض في الآخرين أن يتعلموا بصمت أي محاولة للخروج من هذا النسق تُقرأ كتمرد يستحق العقاب الرمزي، وغالبًا ما يكون هذا العقاب هو التبخيس ومع كل ذلك، يبقى العامل الأكثر حسماً هو غياب بيئة مؤسساتية عادلة فعندما تغيب لجان مستقلة للنشر والتحكيم والتثمين يتحول الاعتراف من حقّ يتأسس على الجدارة إلى امتياز تمنحه العلاقات، فتُفتح الأبواب للبعض وتُغلق في وجه آخرين، لا بناءً على جودة ما يُنتجون، بل على من يُصافحون ومن يرضون وهناك من تسعفه هذه النزعة لا لشئ سوى لأن ثقافة الشيخ و المريد حاضرة في حياتهم العملية و الجمعوية ويعتبرون كل خروج على السرب تحطيم لتطلعاتهم الوهمية ويبرز عوراتهم الثقافية والأدبية
هكذا تتكوّن دائرة مغلقة تُقصي الإبداع بدل أن ترعاه، وتُكرّس الشك بدل الاعتراف، وتُبقي الحقول المعرفية أسيرة لمنطق لا يسمح بتجددها ولا يترك مكانًا لمواهب كان يمكن لها أن تصنع فرقًا حقيقيًا لو وجدت حدًا أدنى من الإنصاف
الآثار: حين يختنق الإبداع في مهدِه
تبخيس إنجازات الآخرين ليس مجرد مزاج فردي عابر، بل هو سياسة لا واعية تُهدر على المجتمع طاقات هائلة كان يمكن أن تصنع فرقًا نوعيًا في مساره الثقافي والمعرفي فهذا السلوك، حين يترسّخ في الوعي الجمعي لا يكتفي بإحباط صاحب الإبداع بل يُنتج سلسلة من الآثار المدمّرة فهو يدفع بالكفائات الشابة إلى الانسحاب من الفعل العمومي والثقافي ويقوّض مستوى الجرأة الفكرية التي تُعدّ شرطًا لأي نهضة معرفية، كما يسهم في تكلس المؤسسات التي تخشى التجديد أكثر مما تخشى الركود وإلى جانب ذلك، يخلق مناخًا مسمومًا من الشك المتبادل يتحوّل معه المجال الثقافي والأبداعي إلى حلبة صراع رمزي، تُستنزف فيها الطاقة قبل أن تتحول إلى معنى أو معرفة
وفي نهاية المطاف، ليست المشكلة في وجود من يُبخّسون إنجازات غيرهم فهؤلاء سيبقون دائمًا جزءًا من المشهد بل في أن المجتمع كثيرًا ما يُصغي إليهم، ويمنح خطابهم وزنًا يتجاوز حجمه الطبيعي، بدل أن يمارس واجبه في مساءلة الدوافع التي تختبئ خلف هذا التبخيس فحين ينتصر الشك على الاعتراف، نخسر الإبداع قبل أن يرى النور، ونخسر معه مستقبلًا كان يمكن أن يُكتب بطريقة أفضل
كيف نواجه التبخيس
تعزيز ثقافة الاعتراف
لا يمكن لنهضة فكرية أن ترى النور في بيئة تُكافئ الصمت وتُعاقب الجرأة فالأفكار لا تنمو في المناخات الخانقة، ولا تزدهر حين يصبح الاحتراز فضيلة والاختلاف خطيئة إن الإبداع يحتاج إلى فضاء يسمح بالتجريب، ويمنح صاحبه حق الخطأ كما يمنحه حق الاكتشاف أما حين تُستبدل حرية التعبير بثقافة المهادنة، ويُنظر إلى كل صوت جديد كتهديد، فإن المجتمع لا ينتج معرفة بل يعيد تدوير صدى نفسه، ويفقد تدريجيًا القدرة على تجديد معانيه ومساراته
الفصل بين النقد والتبخيس
النقد يبني، أمّا التبخيس فيكسر فالنقد الحقيقي يقول لصاحب الفكرة كان يمكن أن يكون أفضل، لأن غايته تحسين العمل لا إعدام صاحبه أما التبخيس فهو لا يتوجه إلى الفكرة بل إلى الإنسان ولا ينطق إلا بلغة واحدة أنت لا تستطيع وبين خطاب يُرشد نحو التطوير وخطاب يُقصي عبر التجريح، يتحدد المسار الثقافي لأي مجتمع مسار يرتقي بفعل النقد، أو يسقط تحت وطأة التبخيس الذي يعادي الإمكان ويصادر المستقبل قبل أن يولد
فتح المجال للمبدعين الجدد
المؤسسات التي تعرقل صعود الوجوه الجديدة لا تتجمد فحسب بل تتحول تدريجيًا إلى فضاء مغلق يعيد إنتاج النسخة نفسها من الفكرة نفسها فحين تُغلق الأبواب في وجه الدماء الجديدة، تُغلق معها فرص التجدد، ويتحوّل الإبداع إلى إعادة تدوير لخطاب واحد ورؤية واحدة وزمن واحد ومع غياب التداول الرمزي، تفقد المؤسسة قدرتها على مواكبة التحولات، وتُصبح أسيرة نماذج فكرية شاخت ولم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلة عصرها
الاحتكام إلى المعايير العلمية
إن وجود لجان مستقلة، ونشر شفاف، وتحكيم نزيه، ليس مجرد تفاصيل تقنية، بل هو الضمانة الأساسية لئلا يتحوّل الإبداع إلى ملكية خاصة تُوزَّع على المقربين وتُحجَب عن المستحقين فحين تُدار العملية الثقافية بمعايير واضحة لا تخضع للأهواء، يصبح الاعتراف حقًا مؤسسًا على الجدارة، ويستعيد الإبداع مكانته كمجال مشترك يُصنع فيه المعنى، لا كامتياز يُحتكر داخل دوائر مغلقة
خاتمة: الاعتراف ليس منّة
في عالم يتحرك بسرعة تفوق قدرتنا على الالتقاط لم يعد الإبداع رفاهية ثانوية بل ضرورة وجودية تُمكّن المجتمعات من مواكبة التحوّلات وصناعة موقع لها في المستقبل والمجتمعات والمؤسسات التي تمتلك شجاعة الاعتراف بإنجازات أفرادها هي وحدها القادرة على فتح نوافذ جديدة نحو الغد لأنها تدرك أن كل فكرة جديدة هي خطوة أخرى في طريق التقدم
أما الدوائر التي تتقن فنّ التبخيس والتشكيك فهي محكومة بأن تدور في المكان نفسه مهما رفعت من الشعارات أو تبنّت من الخطط فتبخيس إنجازات الآخرين ليس مجرّد مشكلة أخلاقية بل هو علامة على ارتباك ثقافي عميق يخشى التجدد، ويخاف من كل ما يكسر النسق المألوف وحين يصبح الخوف من التغيير أقوى من الرغبة في التطوير، نخسر المستقبل قبل أن يصل، ونُضيّع الفرصة قبل أن تتجسد