قالت عائشة العلوي، أستاذة جامعية وخبيرة في الاقتصاد، أن قانون المالية يعاني من فجوة هائلة بين تعقيده التقني، والحق الديمقراطي للمواطن.
واوضحت المواطن هو الذي يدفع الضريبة هو الممول الفعلي للمال العام. ومن حقه الطبيعي أن يطّلع على وجهة أمواله، وكيفية صرفها، والمشاريع التي تُنفذ بدرهمه. وعندما يلمس بشكل مادي تحول جزء من ضريبته إلى مدرسة في حيه أو مركز صحي قريب، تتحول علاقته من إلزام ضريبي إلى شراكة تنموية حقيقية.
وأبرزت في حوار مع "أنفاس بريس"، اقتراح التحول نحو قانون مالية جهوي - أي أن ينبثق القانون المالي الوطني من رؤى مالية جهوية، وليس العكس - كفكرة تتوافق مع التوجهات الاستراتيجية للمغرب. وهو مقترح مُطبق بصيغ متنوعة ومختلفة في عدة دول تتبنى نماذج مالية متعددة المستويات، مثل إسبانيا وإيطاليا، وألمانيا، وكندا، وغيرها.
في كل سنة يطرح القانون المالي، لكن دون أن يحظى باهتمام مجتمعي، ما مدى وضوح قانون المالية بالنسبة للمواطن العادي؟ وهل يجب تبسيطه؟
هذا السؤال محورياً، فهو يلامس أحد التناقضات الأساسية في الحياة العامة: كيف تكون الوثيقة المالية الأهم التي تمسّ حياة كل مواطن مباشرة غامضة ومعقدة إلى درجة تعزله عن فهمها؟
في اعتقادي، يعاني قانون المالية من فجوة هائلة بين تعقيده التقني، والحق الديمقراطي للمواطن(ة) في المعرفة والمشاركة. ورغم كونه الوثيقة التي تحدد أولوياتنا الوطنية في مجالات التعليم والصحة والبنى التحتية، إلا أنه يُقدّم بلغة محاسبية بحتة، أشبه بشيفرة لا يفكّ رموزها إلا الخبراء والسياسيين. هذا الواقع يجعله أقرب إلى «صندوق أسود» يُغلق الباب أمام النقاش العمومي الواسع. لم يعد تبسيط قانون المالية ترفاً فكرياً، بل تحول إلى ضرورة ديمقراطية واقتصادية في آن واحد، وذلك لأسباب عدة، من أبرزها أن
- المواطن(ة) شريك وليس رقماً، فالمواطن(ة) الذي يدفع الضريبة هو الممول الفعلي للمال العام. ومن حقه الطبيعي أن يطّلع على وجهة أمواله، وكيفية صرفها، والمشاريع التي تُنفذ بدرهمه. وعندما يلمس بشكل مادي تحول جزء من ضريبته إلى مدرسة في حيه أو مركز صحي قريب، تتحول علاقته من إلزام ضريبي إلى شراكة تنموية حقيقية.
- الشفافية تبني الثقة، والتعقيد يغذي الشكوك: إن حصر النقاش المالي في دائرة النخبة يضعف الرقابة المجتمعية، التي تمثل سلاحاً فعّالاً في مواجهة سوء استخدام المال العمومي والفساد والمحسوبية. فالثقة تُبنى على أسس الوضوح والشفافية والنقاش الديموقراطي.
- التبسيط وسيلة للتمكين: فلا يقتصر أثر التبسيط على المواطن(ة) العادي(ة)، بل يشمل أيضاً أصحاب المتاجر الصغيرة والمقاولين الناشئين الذين يسعون لفهم الآثار الضريبية على أنشطتهم دون حاجة إلى الاستعانة بمختصين في المحاسبة أو المالية.
غير أن الخطوة التمهيدية نحو التبسيط -المتمثلة في «ميزانية المواطن»، تحتاج بدورها إلى نقلة نوعية. إذ غالباً ما تظل هذه الوثائق طويلة، وتفتقر إلى الجاذبية والفعّالية والبساطة. لذا، فإن تحويل هذه الوثيقة إلى حملة تواصل شاملة يُعد خياراً استراتيجياً، يقوم على أسس بسيطة تلامس عموم المواطنين/ات، ولا سيما الشباب، من خلال اعتماد لغة وسرد مبسطين، استخدام وسائل بصرية جذابة، تطوير منصة رقمية تفاعلية، تنظيم حملات توعوية في الوسائل الإعلامية، الخ.
من جهة أخرى، يجب التأكيد على أن الانتقال من «ميزانية النخبة»، إلى «ميزانية الجميع» ليس مجرد خطوة تقنية، بل هو مشروع ديمقراطي بامتياز. فهو استثمار في تعزيز الثقة، وترسيخ مبدأ المساءلة، وبناء شراكة حقيقية بين الدولة والمواطن(ة) في صناعة المستقبل، خصوصاً في ظل المنعطف التاريخي الذي يعيشه المغرِب مع تطبيق مقترح الحكم الذاتي للصحراء، والذي يتطلب مشاركة واسعة وتعبئة وطنية.
إلى أي حد يترجم قانون المالية التوجهات الاستراتيجية للدولة وليس فقط حساباتها المحاسباتية؟
يحاول قانون المالية أن يوازن بين مستويين مختلفين: التوجهات الاستراتيجية كترسيخ الدولة الاجتماعية وتعزيز الاستثمار المنتج، وحسابات محاسباتية صارمة تفرضها التزامات مالية وهيكلية متعددة، لكن ترجمة الخيارات الاستراتيجية للدولة لا تتم دائماً بالزخم المطلوب، إذ تتقلص مساحات الفعل الاستراتيجي عندما تتحكم في بنية الميزانية بنود ثقيلة مثل الدين، وخدمة الدين، ودعم التوازنات الماكرو-اقتصادية على حساب توازنات اجتماعية وبيئية تراعي الاحتياجات للجيل الحالي والأجيال القادمة.
وبالتالي، قد تتحول التوجهات الكبرى إلى مجرد إعلان نوايا إذا لم تُترجم إلى رصد مالي واضح، وزمنية تنفيذ دقيقة، ومؤشرات قياس قابلة للتتبع، كما أن قدرة الدولة على تحويل رؤيتها الاستراتيجية إلى التزامات فعلية تواجه عدة عوائق، من قبيل ضغوطات الشركات واللوبيات الاقتصادية، اشتراطات التمويل الخارجي، هشاشة النسيج الإنتاجي، وتزايد التحديات الجيوسياسية والجيواقتصادية في إفريقيا التي تعيد ترتيب أولويات الإنفاق.
لكن يبقى من أهم الأهداف الجوهرية التي تبني «قانون المالية» هو السلم الاجتماعي وتقوية النسيج الاقتصادي للبلد. لهذا يظهر قانون المالية بالمغرب في كثير من الأحيان كوثيقة تسعى إلى الحفاظ على الاستقرار المالي أكثر مما تسعى إلى إحداث تحول استراتيجي عميق، ما يجعل الرؤية الكبرى للدولة تتقدم بخطى أبطأ من الطموحات المعلنة.
هل يُعدّ قانون المالية أداة فعلية لتنزيل الدولة الاجتماعية أم مجرد وثيقة لتدبير التوازنات الكبرى؟
يمكن اعتبار قانون المالية أداة ذات وجهين.
فمن جهة، شكّل إدماج ورش الحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية الإجبارية حدثاً مفصلياً، إذ أدخل التزاماً مالياً ثابتاً داخل الميزانية، ما يجعل قانون المالية إحدى الركائز الأساسية في بناء الدولة الاجتماعية، ليس فقط كخطاب، بل كمنظومة تمويلية مؤسسة. غير أنّ المقاربة المالية ما زالت تميل إلى التحفظ، إذ تُعطي أولوية مطلقة لتقليص العجز، وضبط المديونية، واحترام التوازنات الماكر-واقتصادية.
وعندما يتعارض منطق الاستثمار الاجتماعي مع منطق الحسابات المالية، غالباً ما تنتصر المقاربة الثانية.
*هل تكفي الاعتمادات
المرصودة فعلاً
لإحداث تحول اجتماعي هيكلي، أم أنها تبقى في حدود معالجة الأعطاب دون تغيير جذورها؟*
هذا سؤال جوهري، على اعتبار أن بناء دولة اجتماعية قوية وسيادية يتطلب أكثر من رصد ميزانيات؛ يتطلب استعادة الدولة لقوتها الاقتصادية وقدرتها على التوجيه والتدخل، خصوصاً بعد أن أثبت النموذج الليبرالي المحدود أنه يُنتج اختلالات اجتماعية ومجالية أكثر ممّا يُصححها. فلا يمكن لميزانية مقيّدة بهشاشة الاقتصاد الوطني أن تموّل سياسة اجتماعية طموحة من دون إعادة النظر في دور الدولة في الاقتصاد خاصة في القطاعات الإنتاجية الاستراتيجية.
وفي هذا السياق، يصبح تبني نموذج تنموي قائم على التنمية المحلية خياراً استراتيجياً، لأنه وحده الكفيل بخلق موارد جديدة ومستدامة، وتوسيع قاعدة الجبايات بطريقة عادلة، وضمان تمويل دائم للدولة الاجتماعية. فبدون اقتصاد حقيقي قوي، سيظل قانون المالية يميل إلى منطق ضبط التوازنات بدل الانحياز الكامل لبناء مجتمع أكثر عدالة وإنصافاً.
ما مدى تأثير قانون المالية على الطبقة المتوسطة؟ وهل يعزز حمايتها أم يثقل كاهلها؟
تُعتبر الطبقة المتوسطة بمثابة المؤشر الحقيقي لفعالية أي سياسة مالية، لأنها الفئة التي تتحمل الجزء الأكبر من الضرائب، وفي الوقت نفسه تشكّل قاعدة الاستهلاك والاستقرار الاجتماعي، غير أنّ هذه الطبقة عرفت خلال السنوات الأخيرة تآكلاً واضحاً في قدرتها الشرائية نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة وتسجيل زيادات واسعة في الضرائب غير المباشرة، إضافة إلى تراجع جودة الخدمات العمومية، ما دفعها اضطرارياً لتحمل كلفة التعليم والصحة والسكن والنقل بشكل أكبر.
ورغم بعض الإجراءات التي حملتها قوانين المالية، مثل دعم السكن أو تعديلات في الضريبة على الدخل، فإن أثرها بقي محدوداً وغير كافٍ لعكس مسار تدهور وضع هذه الفئة.
فالضغط الأكبر يأتي من الضرائب غير المباشرة «المحروقات، المواد الأساسية، بعض خدمات الاستهلاك»، وهي ضرائب تُفرض بالتساوي على الجميع لكنها تُثقل كاهل الطبقة المتوسطة أكثر من غيرها، باعتبارها فاقدة لامتيازات الأغنياء وعاجزة في الوقت نفسه عن الاستفادة من برامج الفئات الهشة.
وعليه، تبدو حماية الطبقة المتوسطة جزئية وغير ممنهجة، في حين كان المنتظر أن يشكل قانون المالية أداة لتوسيع قدرتها الشرائية لا تقليصها، خاصة وأن هذه الفئة ليست مجرد مجموعة اجتماعية، بل عمود فقري لسيادة الدولة اقتصادياً واجتماعيا. فهي التي تُمكّن من بقاء الطلب الداخلي قوياً، وتساهم في تمويل الميزانية عبر الضرائب، وتشكل عنصر توازن واستقرار ضروريين لتحقيق التماسك والتضامن الاجتماعي. لذا، بغياب سياسة مالية واضحة تعترف بهذه الوظيفة الاستراتيجية، سيظل موقع الطبقة المتوسطة هشاً، وبالتالي سيظل أثر قانون المالية عليها أقرب إلى الإثقال منه إلى الحماية.
إلى أي حد يستجيب قانون المالية لأولويات التنمية الترابية مقارنة بتأثير المصالح القطاعية المركزية؟
رغم التقدم المؤسساتي الذي تحقق في إطار ورش الجهوية المتقدمة، لا تزال المركزية المالية هي الإطار الحاكم للقرار التنموي في المغرب. فالأولويات الترابية تُدرج في الغالب عبر قطاعات وزارية مركزية تمتلك التفوق المالي والأدوات التقنية، بينما تظل البرمجة الجهوية ذات هامش محدود، سواء على مستوى المبادرة أو التمويل.
كما أن تأثير المنتخبين الترابيين يبقى محدوداً مقارنة بنفوذ الوزارات والقطاعات التي تُهيمن عليها مصالح اقتصادية وإدارية قوية في كثير من الأحيان، مما يؤدي إلى مناقشة قضايا التنمية محلياً بينما تُحسم في الأخير مركزياً. وإضافة إلى ذلك، تظل تعبئة الموارد الذاتية للجماعات الترابية ضعيفة ولا تتناسب مع حجم المهام الجديدة الموكولة إليها، مما يقيد قدرتها على قيادة تنمية حقيقية ومستدامة.
في هذا السياق، يبرز اقتراح التحول نحو قانون مالية جهوي - أي أن ينبثق القانون المالي الوطني من رؤى مالية جهوية، وليس العكس - كفكرة ذات سند نظري قوي وتتوافق مع التوجهات الاستراتيجية للمغرب. وهو مقترح ليس لاعقلاني ولامنطقي، بل إنه مُطبق بصيغ متنوعة ومختلفة في عدة دول تتبنى نماذج مالية متعددة المستويات، مثل إسبانيا وإيطاليا، وألمانيا، وكندا، وغيرها.
تُؤكد هذه النماذج الدولية أن قانون المالية الجهوي يمثل مرحلة تطورية طبيعية نحو لامركزية مالية حقيقية، تُمكّن الجهات من: برمجة إنفاقها وفقاً لاحتياجاتها الواقعية، خلق موارد محلية وتوسيع القاعدة الضريبية الترابية، تعزيز استقلاليتها عن المركز، وضمان عدالة مجالية أكبر من خلال ربط التمويل بمعايير مثل الهشاشة والفقر والاحتياجات السوسيو-اقتصادية. غير أن نجاح هذا النموذج رهين بتوفر شروط بنيوية، أبرزها: بناء قدرات قوية في الحكامة، تطبيق الشفافية المالية، تنمية الموارد الضريبية الذاتية، وإرساء آلية للتضامن المالي بين الجهات لضمان عدم اتساع الفوارق المجالية. أي لابد من تطوير النظام المالي للجماعات الترابية المعتمد حاليا.
إلى أي حد ينجح قانون المالية في ترجمة مبادئ العدالة المجالية؟
لا تُقاس عدالة التوزيع المجالي بالتصريحات، والسياسات العامة فحسب، بل بالتوزيع الفعلي للاستثمارات العمومية عبر مختلف جهات البلاد.
ورغم الجهود المبذولة، تُظهر الخريطة الاستثمارية الحالية تفاوتاً واضحاً، حيث تستأثر المناطق الأكثر دينامية اقتصادياً بحصة أكبر من المشاريع والبنى التحتية، مما يعمق الفجوة التنموية بين الجهات، بينما تقتضي العدالة المجالية اعتماد معايير موضوعية وشفافة في تخصيص الموارد «مثل مؤشرات الفقر والهشاشة الاجتماعية؛ مستوى نقص البنى التحتية الأساسية؛ الكثافة السكانية، والحاجة إلى تحفيز قابلية الاستثمار في المناطق الأقل نمواً»؛ وهي معايير لا تنعكس دائماً بشكل منهجي في توزيع الاعتمادات المالية عبر بنود قانون المالية.
وفي هذا السياق، تكتسي التوجيهات الملكية التي أعاد الملك محمد السادس تأكيدها في خطاب العرش لسنة 2025 بأهمية بالغة، حيث أكد أن «لا مكان اليوم ولا غدًا لمغرب يسير بسرعتين»، أي ضرورة تحقيق تنمية بسرعة واحدة وتمكين كل مجال ترابي من تحقيق تنميته المحلية. ويُفترض أن يكون قانون المالية الأداة الرئيسية لترجمة هذه الإرادة إلى برامج ملموسة.
وما تؤكده الحركات الاحتجاجية، التي تبنّاها جيل Z عبر مختلف مناطق المغرب، هو أن العدالة المجالية لم تعد ترفاً فكرياً أو شعاراً نخبوياً، بل أصبحت ضرورة ملحة لبناء دولة ديمقراطية عادلة. فالتنمية الحقيقية لا تتحقق إلا بضمان حقوق المواطن(ة) في التنمية والخدمات الأساسية أينما وجد، سواء في الجبل أو القرية أو الواحة أو المدينة. وبالتالي، فإن نجاح قانون المالية في تحقيق العدالة المجالية يُقاس بقدرته على تحويل التوجهات الاستراتيجية إلى توزيع عادل للموارد، يضمن كرامة الإنسان وتنمية المجال الترابي في كل ربوع البلاد.