محمد براو أصبحت السرديات التهويلية جزءًا ثابتًا من المشهد الإعلامي الوطني والدولي. فبدلاً من التعامل مع التحولات السياسية والاجتماعية بوصفها عمليات طبيعية ومعقدة، تُعاد صياغتها في شكل قصص عن "انهيار وشيك" أو "نهاية مرحلة". هذا الميل نحو الدراما لا يفسّر الواقع، بل يعيد إنتاجه وفق مزاج من الإثارة والتوقعات السوداوية. وقد نال المغرب نصيبه من هذا الخطاب خلال الأشهر الماضية، حيث صُوّر البلد على حافة أزمة سياسية، واعتُبرت الاحتجاجات الاجتماعية دليلاً على انهيار شامل.
لكن الواقع يخالف هذه الصورة بشكل واضح: المغرب بلد يتحوّل، يتقدّم، ويواجه تحدياته بطريقة متوازنة، ما يجعل من سردية الانهيار مغالطة منهجية.
آليات صناعة الخطاب التهويلي
يقوم الخطاب التهوّلي على انتقاء مشاهد معينة أو تصريحات محددة ثم تحويلها إلى "دلائل انهيار وشيك"، دون محاولة فهم السياق أو التعقيد الكامن وراءها. هكذا تتحوّل السياسة إلى مشهد رمزي: صورة تُقرأ كعلامة ضعف، تصريح يُفسّر كإنذار نهائي، وتظاهرة مطلبية تُفسّر كخطر داهم.
هذا المنهج يعكس ما أسماه ريكور بـ "هرمنيوطيقا الشك": ليس بحثًا عن الحقيقة، بل عن الخلل لإنتاج قصة إثارة. المشكلة أن هذا النوع من التحليل يتجاهل الحقائق الواقعية ويختزلها في رواية مبسطة، متجاهلاً أن السياسة والمجتمع أكثر تعقيدًا من مجرد مفارقة بين الاستقرار والانهيار.
الدينامية الحقيقية وراء الأزمات المرحلية: المغرب كنموذج مضاد
عند النظر إلى الوقائع، تتكشف صورة مختلفة تمامًا عن سردية الانهيار. المغرب يعرف منذ سنوات دينامية مؤسساتية واستراتيجية واضحة تشمل:
- تقدمًا دبلوماسيًا ملموسًا، حيث شهدت العلاقات المغربية الإفريقية والعالمية تعزيزًا ملحوظًا، من استعادة المغرب لمكانته في الاتحاد الإفريقي إلى توقيع اتفاقيات اقتصادية متعددة مع أوروبا وأمريكا.
- نجاحات رياضية وتنظيمية بارزة، مثل استضافة المغرب للبطولات الإفريقية والدولية، وارتفاع عدد الميداليات التي حققها الرياضيون المغاربة في الألعاب العربية والأفريقية.
- إصلاحات اجتماعية وإدارية مستمرة، تهدف إلى تحسين جودة الحياة وتعزيز العدالة الاقتصادية، مثل مشروع التغطية الصحية الشاملة والإصلاحات في التعليم وتحديث البنية التحتية.
وفي الوقت نفسه، يشهد المغرب حراكًا اجتماعيًا واحتجاجات مطلبية. هذه التوترات، مهما بدت صاخبة، ليست دليلاً على انهيار الدولة، بل علامة على مجتمع حيّ ومؤشر على نضج سياسي وتوسيع المجال العمومي. الاحتجاجات هي أداة المواطنين للتعبير عن مطالبهم، وليس تهديدًا للنظام.
المعطيات مقابل الانطباعات: قراءة رشيدة للتحديات
الخطاب التهويلي يربط كل احتجاج أو توتر اجتماعي بفكرة الانهيار، متجاهلاً أن معظم هذه الاحتجاجات اقتصادية أو مطلبية في طبيعتها وتهدف إلى تحسين الخدمات والأجور والعدالة المجالية. وهي، بحسب علم الاجتماع السياسي، مؤشر على فعالية المجتمع المدني وصعود الوعي بالمساءلة.
كما أن هذه الاحتجاجات تتعايش مع:
- إصلاحات مؤسساتية مستمرة لتعزيز الشفافية والحكامة،
- تقدم دبلوماسي ملحوظ يعكس قدرة المغرب على حماية مصالحه في محيط دولي معقد،
- نمو اقتصادي واستثماري مستدام، مثل مشاريع الطاقة المتجددة التي وضعت المغرب ضمن الدول الرائدة إفريقيًا،
- قدرة الدولة على إدارة الملفات الاستراتيجية، بما في ذلك مكافحة الفقر وتحقيق التوازن بين الجهات من خلال الدينامية الحالية المتعلقة بمشاريع التنمية الترابية المندمجة.
هذا التعايش بين الاحتجاج والتنمية يظهر أن المغرب ليس على شفا انهيار، بل هو مجتمع ودولة يتفاعلان مع تحدياتهما بوعي ومرونة.
نحو قراءة مسؤولة تتجاوز التصورات السطحية
اختزال التعقيدات في سردية واحدة عن “الانهيار” يعني تجاهل الواقع. القراءة الرصينة للمغرب تتطلب:
- رؤية الاحتجاجات كعلامة على الحيوية الاجتماعية،
- اعتبار التحديات الاجتماعية محركات للتطوير وليس عوائق،
- إدراك التقدم الدبلوماسي والمؤسساتي كنتيجة لرؤية استراتيجية واضحة،
- فهم أن الاستقرار ليس غياب الصعوبات، بل القدرة على التكيف والنمو.
السياسة، كما قال ماكس فيبر، ليست مسرحًا للانفعالات، بل مجال مسؤولية يتطلب عقلًا باردًا ونظرة بعيدة المدى.
ختاما
وفي النهاية، تذكّرنا الفيلسوفة هانا أرندت بأن: "الحرية الحقيقية تظهر في الفعل والتفاعل مع العالم، لا في انتظار نهايات مفترضة." لذلك، يجب قراءة الواقع المغربي بما هو عليه، لا بما يُصوّره إعلام التهويل. الاحتجاجات والاعتراضات ليست كارثة، بل دليل على وعي المجتمع وحيويته، ومرونة النظام السياسي وتقدميته.وكذا استعداده للاستماع ل "الصوت المرفوع" (راجع مقالنا حول "إسماع الصوت"). التحديات الاجتماعية ليست عوائق، بل محركات للتطور، والاستقرار ليس غياب الصعوبات، بل قدرة الدولة والمجتمع على التكيف والنمو مع كل اختبار.
فالسياسة، كما في الحياة، قوتها في الفهم والتحليل وصناعة المستقبل بحكمة ومسؤولية، لا في الخوف من النهايات المفترضة والمآلات المتخيلة.
محمد براو، الباحث والخبير الدولي في الحكامة